مجموعة المحاماة اليمنية
أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم, أنت لم تقم بتسجيل الدخول بعد! يشرفنا أن تقوم بالدخول أو التسجيل إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى
مجموعة المحاماة اليمنية
أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم, أنت لم تقم بتسجيل الدخول بعد! يشرفنا أن تقوم بالدخول أو التسجيل إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى
مجموعة المحاماة اليمنية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

مجموعة المحاماة اليمنية

المحامي علي محمد مطهر العنسي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 دراسة في فقه مقاصد الشريعة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
malsdiik




عدد المساهمات : 8
نقاط : 16
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 27/04/2010

دراسة في فقه مقاصد الشريعة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: دراسة في فقه مقاصد الشريعة    دراسة في فقه مقاصد الشريعة  Emptyالثلاثاء ديسمبر 28, 2010 11:13 am

. سمات هذه المدرسة وخصائصها

لهذه المدرسة التي غلبت عليها الظاهرية سمات وخصائص علمية وفكرية وخُلقُية، تميزها عن غيرها من المدارس، وتؤثر على اتجاهها الفقهي والعملي في اختيار الآراء، وترجيح الأقوال بعضها على بعض، وفي حكمها على الأحداث والوقائع والمواقف والأشخاص. وأستطيع أن أجمل هذه الخصائص في ست نقاط: 1 ـ حَرفِية الفهم والتفسير: الحَرفِيَّة في فهم النصوص وتفسيرها، والتَقيُد بذلك، دون النظر إلى ما يكمن وراء النص من علل ومقاصد، يدركها الباحث المتعمق. فإذا صح حديث يتوعد (مُسْبل الإزار) وأنه في النار، وأن الله لا ينظر إليه يوم القيامة ولا يكلمه، وله عذاب أليم، لم يُكَلِّف أصحاب هذه المدرسة أنفسهم أن يبحثوا في العلة من وراء هذا الوعيد الشديد، وهل مجرد الإسبال يستحق كل هذا الوعيد؟ وهل يتفق مع منطق الدين كله؟ أو يا ترى هناك علة وراء هذا الوعيد الذي يخلع هوله القلوب؟ وهو(الخيلاء) التي ذكرت صراحة في بعض الأحاديث؟ فينبغي أن يُحمل المطلق على المقيد، وبذلك يزول اللبس، ويستقيم منطق الدين بعضه مع بعض. ولكن هذه المدرسة لا تعنّي نفسها بمثل هذا البحث، وتأخذ بحديث الإسبال على ظاهره، وتشدد منه كل التشديد، ما دام ينذر بالنار، وغضب الجبار. 2 ـ الجنوح إلى التشدد والتعسير: الجنوح إلى التشدد والتنطع والغلو، وإن كانت هذه المدرسة لا تسميه بذلك، بل تراه ذلك هوالحق الذي اقتضاه الدليل! ولا ريب أن كل الغلاة والمتشددين في تاريخنا، كانوا يرون أنفسهم على صواب، وأن الحق معهم لا مع غيرهم. حتى الخوارج الذين صحَّت الأحاديث في ذم وجهتهم والتحذير منهم ومن غلوهم في الدين، رغم مبالغتهم في التعبد الظاهري من صلاة وصيام وتلاوة قرآن، ولكنهم مع هذا يستحلون دماء المسلمين من غيرهم وأموالهم. (يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان). إنك ترى هؤلاء يميلون أبدا إلى الرأي الأثقل، والرأي الأحوط، ولا يرضون بالتيسير منهجا، بل هم يذمون الميسرين من العلماء، ويرمونهم بالتساهل في الدين. والتهاون بأحكام الشرع. وتراهم إذا كان في المسألة قولان لا يأخذون إلا أشدهما وأثقلهما، ولا يكادون يعرفون ما في الدين من رخص، وما فيه من أحكام الضرورات والحاجات التي تنّزل منزلة الضرورات، ولا المخففات المعتبرة في الشرع من المرض والسفر واشتداد المشقة، وعموم البلوى. أقرب شيء إلى ألسنتهم وأقلامهم إذا سئلوا أن يقولوا: حرام. مع أن السلف لم يكونوا يطلقون كلمة (الحرام) إلا على ما علم تحريمه جزما. 3 ـ الاعتداد برأيهم إلى حد الغرور: الاعتداد بالرأي الذي يذهبون إليه، إلى حد اعتباره هوالصواب المطلق، وكل الآراء الأخرى التي يقول بها غيرهم خطأ محض. لا يؤمنون بالمقولة التي تنسب إلى الإمام الشافعي: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب. بل يقولون: رأينا صواب لا يحتمل الخطأ، ورأى الآخرين خطأ لا يحتمل الصواب! ولهذا يحاولون أن يلغوا الآراء الأخرى، والمذاهب الأخرى، وأن يجمعوا الناس على رأيهم وحده، لا شريك له! ولا غرو أن سُمّوا (مدرسة الرأي الواحد) التي يكافح شيوخها وطلابها ليرفعوا الخلاف بين الناس، ولا يسمحوا لرأي آخر أن يبرز أويكون له من يؤمن به ويدعو إليه. وهذا ما جعل الثقات من العلماء يردون عليهم، ويبينون لهم أن رفع الخلاف غير ممكن، كما أنه غير مفيد. ولقد وَضَّحت في أكثر من كتاب لي أن الاختلاف-وخصوصا في الفقه والفروع-ضرورة ورحمة وسعة، وأقمت البينات على ذلك، كما في كتابي: (الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم) وكتابي: (كيف نتعامل مع التراث والتمذهب والاختلاف). 4 ـ الإنكار بشدة على المخالفين: تشديد الإنكار على المخالفين لهم في الرأي والتوجه، وهذا فرع أو ثمرة للسمة السابقة، فشدة اعتدادهم برأيهم وأنه الصواب وحده جعلهم ينكرون، بل يشتدون في نكيرهم على من خالفهم. مع إجماع علماء الأمة على أنه لا إنكار في المسائل الخلافية الاجتهادية؛ إذ الآراء متساوية في نسبتها إلى الصواب والخطأ، ما دامت صادرة عن غير معصوم. قد يكون بعضها أرجح وأقرب إلى الصواب من بعض، ولكن تظل العصمة من الخطأ ممنوعة على أي مجتهد. وكم رأينا من آراء كانت مرجَّحة أومصحَّحة في زمن ما، أتى زمان فضعفها العلماء، ورجحوا ما كان مرجوحا من قبل، وصحَّحُوا غيرها مما كان ضعيفا. وهم ينكرون على (المدرسة الوسطية) مقولتها الشهيرة: نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه. فهم لا يعذرون من يخالفهم، ولا يُقَدِّرون وجهة نظره، حتى إنهم ليرفضون الحوار معه. وقد لمست ذلك في موقفهم من كتاب صديقنا الأستاذ عبد الحليم أبوشقة رحمه الله (تحرير المرأة في عصر الرسالة) فقد رفضوا ما جاء فيه من تفسيرات وتيسيرات وآراء تقدمية من خلال نصوص القرآن الكريم وصحيحي البخاري ومسلم، ودعاهم إلى اللقاء للتحاور وللمناقشة معهم في النقاط التي يعترضون عليها، فرفضوا لقاءه مطلقا، حتى قال الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله: إذن هم يرفضون القرآن ويرفضون البخاري ومسلما، لأن الكتاب كله قائم على ذلك!؟ وكم أتمنى أن يرجع إخوتنا هؤلاء إلى أدب الخلاف، الذي ركز عليه علماؤنا من قديم، وكتب فيه القدامى والمحدثون، وأود أن أذُكِّر هنا بكتاب رائع معاصر في هذا الصدد، هوكتاب (فقه الائتلاف) للأستاذ محمود الخازندار رحمه الله؛ ففيه نقول نفيسة، حرية بأن تجمع المختلفين، إذا صدقت النيات. 5 ـ التجريح لمخالفيهم في الرأي إلى حد التكفير: ولا يكتفي هؤلاء الحرفيون بالإنكار على الآخرين ممن يخالفونهم في الرأي، بل إنهم ليبالغون في تجريحهم، وإساءة الظن بهم، وتبديعهم أوتفسيقهم، إلى حد قد ينتهي بتكفيرهم!! فالأصل في مخالفيهم من العلماء هو الاتهام. وإذا كان الأصل في قوانين الناس: أن المتهم بريء حتى تثبت دينونته، وهذا ما تقره شريعتنا-فإن الأصل عندهم: أن المتهم مدين حتى تثبت براءته. وبراءته في أيديهم هم وليس بأيدي غيرهم. وقد صنف هؤلاء كتبا كبيرة مطبوعة طباعة فاخرة! في تجريح عدد من المفكرين المسلمين الذين لا يتفقون معهم: أوسعوهم ذما وجرحا بالبدعة وبالفسق؛ فسق التأويل، وربما بالكفر، من هؤلاء: الدكتور محمد عمارة، والأستاذ فهمي هويدى، والفقير إليه تعالى. 6 ـ عدم المبالاة بإثارة الفتن الدينية والمذهبية وغيرها: يضاف إلى هذه السمات والخصائص: ضعف الحس بالآخر، بل ربما فقدانه بالكلية، سواء كان هذا الآخر مخالفا في المذهب العقدي، مثل الشيعة والإباضية، أم مخالفا في الدين نفسه، مثل اليهود والنصارى. فهم يخطبون ويكتبون ويؤلفون، وكأنهم في العالم وحدهم، ويرسلون كلامهم الذي يسيء إلى الآخرين إساءات بالغة، وكأنهم لا يشعرون، وربما يشعرون ولكنهم غير مبالين بنتائجه الخطيرة. فهم يكفّرون الشيعة، والشيعة يعيشون بين ظهرانيهم، أوقريبا منهم. وهذا ينعكس أيضا على أهل السنة الذين يعيشون بين ظهراني الشيعة. وهم يدعون على اليهود والنصارى أن يهلكهم الله، ولا يبقى منهم أحدا، وأن ييتم أطفالهم، ويرمّل نساءهم، وربما كان في بلادهم-أو بلاد جيرانهم من المسلمين-كثير من المسيحيين واليهود من أهل دار الإسلام، يشاركونهم المواطنة، ولم يقاتلوهم في الدين ولم يخرجوهم من ديارهم، أويظاهروا أعداءهم على إخراجهم، وهؤلاء لم ينه الله تعالى عن برهم والإقساط إليهم. مرتكزات مدرسة الظاهرية الجدد ترتكز مدرسة (الحَرْفِيين) في فهم النصوص الشرعية-الذين سميناهــم (الظاهرية الجدد)-على مرتكزين، ويتمثل ذلك في جملة أمور: أولاً: الأخذ بظواهر النصوص، دون التأمل في معانيها وعلل مقاصدها، فما أفادته هذه الظواهر أخذوا به، دون أن يكلفوا أنفسهم مشقة البحث في هذا النص وما أخذ منه من حكم، هل هو موافق لمقصود الشارع أو لا؟ وهل للشارع مقصد منه أو لا؟ وما هو؟. وقالوا لوكنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسم وسمعنا قوله: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة " لكنُا من الفريق الذي أخَّر الصلاة حتى وصلوا في بنى قريظة، وإن أضاعوا الصلاة في وقتها عملا بظاهر الأمر. ويعيبون على المعنيين بالمقاصد أنهم يعرضون – تحت ستار المقاصد – عن نصوص القرآن والحديث عمدا، وهي التي أوجب الله الاحتكام إليها، " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون الله لهم الخيرة من أمرهم " الأحزاب 36. ثانيا: إنهم ينكرون (تعليل الأحكام) بعقول الناس واجتهادهم، ولا يثقون بالعقل الإنساني في فهم النصوص، ومحاولة التعرف على مقاصدها وعللها، وما وراء الأحكام من حكم قصدها العليم الحكيم، وإن جهلها من جهلها. فالعقل عندهم متهم، ومن عوّل على العقل من العلماء اتهموه بأنه من المعتزلة، أو غيرهم من الجهمية وأمثالهم. ونحن معهم في إنكار التعليل للأحكام في دائرة (العبادات) فإن الأصل فيها أن تؤخذ بالتسليم والانقياد، وإن لم نعرف لها علة ولا حكمة متصلة لمعنىً اختصت به وهوالتعبد، بخلاف العادات والعبادات، وما يتعلق بشئون الحياة، فإن الأصل فيها هو معرفة المعاني والأسرار والمقاصد، وهوما نبه عليه الإمام الشاطبي، ودلل عليه في موافقاته، وسنعرض له عند حديثنا عن المدرسة الوسطية. كما نوافق هؤلاء في عدم الاعتماد المطلق على العقل وحده، دون الاستظهار بالشرع، فإن العقل إذا لم يستضئ بالشرع، ضل السبيل وفقد الدليل. والحكم الشرعي هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أوتخييرا. ومعنى الاقتضاء الأمر أوالنهي. ومعنى التخيير الإذن والإباحة. وهذا لا يعرف إلا بوحي الله سبحانه إلى رسوله المؤيد بالآيات البينات الدالة على صحة نبوته. فمهمة العقل هنا أن يفهم خطاب الشارع الذي جاء به وحي الله في الكتاب والسنة ويحسن الفهم عنه. ثالثا: إنهم يتهمون الرأي-بل يدينونه-ولا يرون استخدامه في فهم النصوص وتعليلها، ويرون اتباع الرأي والتوسع فيه أمرا مبتدعا ومذموما، وسموا الذين يستعملون الرأي: (الأرأيتيين)، أي الذين يقولون دائما: أرأيت لوكان الأمر كذا ماذا يكون الحكم؟ وكان المحدثون وأهل الرواية – بصفة عامة – أقرب إلى اللفظية من الفقهاء وأهل الدراية، إلا من اشتغل بالفقه منهم مثل: مالك والشافعي وأحمد والبخاري وغيرهم، ممن عرفوا باسم: فقهاء الحديث. وعلى هذا انقسم أهل الفقه بعد عصر الصحابة إلى مدرستين: • مدرسة أهل الحديث والأثر. • ومدرسة أهل الرأي والقياس. وكان معظم أهل الأثر في الحجاز، ومعظم أهل الرأي في العراق. ثم اقتربت المدرستان بعضهما من بعض، حين حاول أصحاب أبي حنيفة الذين يمثلون مدرسة (الرأي) الاستفادة من مدرسة الأثر، كما فعل أبويوسف، ومحمد صاحبا أبي حنيفة في الاستفادة من مالك وعلم أهل المدينة. كما حاولت مدرسة الأثر أن تستفيد من مدرسة الرأي، كما استفاد الشافعي من كتب محمد بن الحسن. ولكن ظل هناك متعصبون لمدرسة الأثر هاجموا الإمام أبا حنيفة هجوما عنيفا: نراه في مثل كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد ، وفيما رواه الخطيب في ترجمة أبي حنيفة في تاريخ بغداد من أقاويل أهل الحديث وتجريحهم لإمام أهل الرأي . وأبوحنيفة ليس إلا وارثا لعلم مدرسة الكوفة الفقهية التي أسسها الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود. رابعا: إن المدرسة الظاهرية تنهج - بصفة عامة - نهج التشدد في الأحكام، وتميل إلى شدائد ابن عمر، أكثر من ميلها إلى رخص ابن عباس، وإذا وجد قولان متكافئان أومتقاربان، أحدها أحوط والآخر أيسر، فإنها تميل دائما إلى الأخذ بالأحوط، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خُيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما. كما إنها لا تعترف بما حدث من تطور في العالم، تغير معه كل شيء عما كان في عهد فقهائنا القدامى، وخصوصا في هذا العصر: عصر الثورات العلمية الهائلة: التكنولوجية، والبيولوجية، والإلكترونية، والنووية، والفضائية.... الخ. ولهذا لا تراعي تغير الزمان والمكان والأعراف والأحوال التي ذكر المحققون من العلماء: إنها توجب تغير الفتوى بتغيرها. ولا ينظرون كثيرا إلى المخفّفات التي توجب التيسير على الناس؛ مثل الضرورات، والحاجيات التي تنزل منزلة الضرورات، وما عمَّت به البلوى، متناسين القواعد التي قررها العلماء من قديم، مثل: إذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير. ومما ذكروه عن عمر أنه كان يقول: ***أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وتفلتت منهم أن يعوها، واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا: لا نعلم، فعارضوا السنن برأيهم، فإياكم وإياهم)). وفي رواية: فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا. قال ابن القيم: إسناده في غاية الصحة . وهذا فيمن يعارضون السنن بآرائهم، لا فيمن يستنبطون منها الأحكام بآرائهم على عللها ومقاصدها لعقولهم، فهذا هو الفقه في الدين عن الله ورسوله. وحذر ابن مسعود فيما رواه البخاري عنه أنه قال: ((فقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلفا ويجيء قوم يقيسون الأمور برأيهم)). وهذا أيضا فيمن يستخدمون الرأي دون اعتماد على أصل من كتاب أو سنة، أو قياس عليهما، أو نظر إلى مقاصدها. وقد كان ابن مسعود هو المؤسس الأول لهذه المدرسة التي عرفت بمدرسة الرأي في الكوفة. فنسبها إلى صحابة رسول الله نسب موصول. نتائج إغفال (الظاهرية الجدد) لمقاصد الشريعة وفي عصرنا رأينا وسمعنا من تقمصوا شخصية ابن حزم، وأغفلوا النظر إلى مقاصد الشريعة، ورفضوا ربط الأحكــام بالِحكَم والمصالح، وحجبتهم ظواهر النصوص الجزئية عن النظر إلى المبادئ الكلية، فوقعوا كما وقع ابن حزم– وهوأوسع منهم علمًا بيقين– في أخطاء فاحشة، وحمَّلوا شريعة الله ما لا تحتمله، بضيق أفهامهـم، وسعة أوهامهم. وسنذكر هنا أمثلة بيِّنة، بل صارخة، لحرفية هؤلاء وجمودهم على الظواهر، التي يستغرب أهل العقل والعلم كيف تصدر عن هؤلاء، وكيف ينسبون ذلك إلى الإسلام. 1 ـ إسقاط الثمنية عن النقود الورقية: لقد وجدنا من يقول: إن النقود الورقية – التي يتعامل بها العالم كله اليوم، ومنه العالم الإسلامي – ليست هي النقود الشرعية التي وردت في الكتاب والسُنَّة، وعلى هذا لا تجب فيها الزكاة، ولا يجري فيها الربا! إنما النقود الشرعية هي الذهب والفضة وحدهما!. هكذا يقول جماعة من الناس ظهروا في لبنان، وعرفوا باسم (الأحباش) وظهرت معهم آراء شاذة مثل هذه، خالفوا بها جمهور الأمة. يمكنك في قول هؤلاء "الظاهرية الجدد" أن تملك الملايين من هذه النقود، ولا تخرج عنها زكاة في كل حَوْل، إلا أن تطيب نفسك بشيء فتتطوَّع به. ويمكنك أن تدفع هذه النقود إلى مَن شئت من الناس أو إلى البنك، وتأخذ عليها من الفوائد ما أردتَ، ولا حَرَجَ عليك!!. وقد رددتُ على هؤلاء الحرفيين في كتابي: " فقه الزكاة"، وبيّنتُ خطأهم الفاضح وتناقضهم الواضح. فهذه النقود هي التي يدفعونها ثمناً للأشياء، فيستحلون بها مختلف السلع من عقار ومنقول. وهي التي يدفعونها أجرة فيستحلون بها عَرق العامل الأجير، وينتفعون في مقابلها بالعين المؤجرة. وهي التي يدفعونها مهراً للمرأة، فيستحلون بها الفروج، ويصححون النكاح، ويثبتون الأنساب. وهي التي يدفعونها دية في القتل الخطأ، فيبرأون من دم المقتول. وهي التي يقبضون بها رواتبهم ومكافآتهم، وأجور عقاراتهم، وأثمان بضائعهم، ويقيمون الدعاوى، ويطلبون التعويضات، ضد من يتأخر عنهم في ذلك، أو يأكل بعض ذلك عليهم. وهي التي يعتبرون غنى المرء بمقدار ما يملك منها، وفقره بمقدار ما يحرم منها. وهي التي يحفظونها في أعز المواقع صيانة لها وحفظًا من الضياع لشيء منها، في الدور أو في المصارف، ويقاتلون دونها لو صال عليهم صائل يريدها. وهي التي تعاقب القوانين كلها مَن سرقها أو اختلسها أو أخذها رشوة. فكيف ساغ لهؤلاء أن يغفلوا ذلك كله، ويُسقطوا الزكاة عن هذه النقود، ويجيزوا الربا فيها، لأنها ليست ذهبًا ولا فضة، لولا النزعة الظاهرية الحرفية، التي ذهبت بهم بعيدا عن الصواب؟!!. 2 ـ إسقاط الزكاة عن أموال التجارة: ومن أعجب ما قرأنا وسمعنا في عصرنا من آراء هؤلاء القول بسقوط الزكاة عن أموال التجارة. ولقد ساءني أن أجد رجلا مثل المحدث الشيخ ناصر الدين الألباني – على تبحره في الحديث وعلومه – يؤيد رأي الظاهرية والشيعة الإمامية في إخراج الثروات التجارية من وعاء الزكاة، ويرى أن التجار الذين يملكون عروض التجارة التي تقدَّر بعشرات الملايين أحيانا لا تجب عليهم الزكاة فيها!. وقد تبع في ذلك العلامة الشوكاني، وتلميذه الأمير الهندي صديق حسن خان القنوجي، مخالفا جمهور الأمة، معرضًا عن عمومات القرآن والسُنَّة، وعن مقاصد مقاصد الشريعة. وأنا من المعجبين بالشوكاني والقنوجي– وقبلهما بابن حزم– ولكن لا عصمة لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم، والشوكاني– على إمامته- تبدو فيه أحيانًا نزعة ظاهرية، كما في موقفه هنا، وفي بعض المسائل الأخرى. وأحسب أن الشوكاني لو عاش إلى عصرنا ورأى أن من التجار من يملك بضائع وعروضا تقدر بالملايين، بل بعشراتها ومئاتها، وأن هذه الثروة قد تمر عليها السنون ولا تَنضَ (أي تُسَيّل في صورة نقود)، ولوحدث شيء جزئي من ذلك فقلَّما يحول عليه الحَوْل، ومعنى هذا أن أموال التجار هذه معفاة– بصورة مستمرة– من وجوب الزكاة! أحسب لو رأى الشوكاني ذلك، ولمس نتائجه، لغير رأيه واجتهاده، فقد كان رجاعًا للحق. ولكن الشيخ الألباني يعيش في عصرنا ويقول ذلك، وينكر على من يخالفه، ويزعم أن قوله هوالشرع الصحيح، وهذا هوالعجب العجاب !. لقد سمعتُ ذلك عنه قديمًا من بعض الناس، وكنت لا أصدّقه، حسبته نوعًا من التشنيع على الشيخ، لما له من خصومات كثيرة مع علماء المذاهب الأربعـة وغيرهم. حتى قرأتُ ذلك في كتابه: " تمام المنة في التعليق على فقه السُّنَّة" وذلك عند تعليقه على حديث أبي ذر رضي الله عنه: " وفي البَزّ صدقته" الذي ضعَّفه الشيخ، وإن حسّنه الحافظ ابن حجر من قبل. ولا يتسع المقام هنا للرد على الشيخ، وقد رددت عليه في كتابي (المرجعية العليا في الإسلام للقرآن والسنة) . ولقد ناقشتُ المضيِّقين في إيجاب الزكاة في كتابي: " فقه الزكاة " في فصل: " زكاة المُسْتَغَلاّت"، وناقشت شبهات الظاهرية في فصل: " زكاة الثروة التجارية"، وفنَّدتُ شبهات هؤلاء وأولئك، ولا أريد أن أعيد ما كتبته هناك فليراجعه من يريد التوسع في الموضوع . وليت شِعْرِي لو أَخَذَت المدن التجارية الكبرى في عالمنا الإسلامي بفتوى الشيخ، فماذا يكون للفقراء، والغارمين، وفي سبيل الله، وسائر المصارف من أموالهم التي تُقدّر بالمليارات؟. ليس على تجار جدة والرياض والكويت ودبي وأبوظبي والدوحة والمنامة ومسقط وعَمَّان وبيروت والقاهرة ودمشق وبغداد وغيرها من زكاة إلا ما نضَّ من البضائع (أي ما سُيِّل منها) وحال عليه الحَوْل، أوما طابت به أنفسهم من قليل أوكثير. وقد تمر سنوات، ولا يُسَيَّلُ من هذه العروض شيء، لأن بضاعة تذهب، وأخرى تجيء، وهكذا دواليك، والمحرومون هم الفقراء والمستحقون، والمظلوم هوالإسلام. على أن ابن حزم المضيِّق في الزكاة يكمل مذهبه أنه يوجب على ولي الأمر أن يفرض على الأغنياء في أموالهم ما يسد حاجة الفقراء، ويجبرهم على ذلك . والشيعة الذين لا يرون الزكاة واجبة في عروض التجارة، يُعوِّضون ذلك بما أوجبوه من " الخمس " في كل ما يغنمه المسلم ويستفيده من دخل، بعد أن يأخذ كفاية نفسه وأهله لمدة سنة بالمعروف. ومن ذلك: خُمس أرباح التجارة. فهي ضريبة على صافي الدخل بمقدار 20%. أما الشيخ فيرى الأصل براءة الذمة من كل تكليف في المال، وإن بلغ الملايين، وأن أموال الأغنياء محرّمة مصونة لا يجوز المساس بها، أو إيجاب أيّ حق عليها، وليمت الفقراء جوعًا، وليهلك الضعفاء تشردًا، إلا أن يجود عليهم التجار بما تطيب به أنفسهم من الفتات!. يعزو ذلك كله إلى الكتاب والسُنَّة المفترى عليهما. إن الإسلام قد يُضار أحياناً من أصدقائه الطيبين، أكثر مما يُضار من أعدائه الخبيثين الكائدين. 3 ـ الإصرار على إخراج زكاة الفطر من الأطعمة: وللظاهرية الجدد موقف عجيب من زكاة الفطر، نشهده منهم كل عام في أواخر رمضان، فهم يقفون موقفا حاسما رافضا لإخراج القيمة- أي قيمة الصاع أو بصنفه الواجب من الطعام– ويقولون بوجوب إخراجها من الحبوب من قمح أو شعير أو ذرة أو أرز، أو تمر أو زبيب، ويحرمون ما عدا ذلك تحريما قاطعا، وينادون في الناس علنا أن من أخرج زكاة الفطر نقودا فزكاته باطلة!! لأنها خلاف السنة! وعليه أن يعيدها ثانية، ويخرجها من الطعام حتى يقبلها الله منه!. هذا مع أن هذا أمر اختلف فيه الأئمة والفقهاء، فلا يجوز الإنكار والتشديد فيه، لأن من المتفق عليه أن لا إنكار في المسائل الاجتهادية الخلافية، إنما ينكر ما اجتمعت عليه الأمة بيقين. على أنهم لم يحسنوا فقه السنة في المسألة كما ينبغي، ولو تأملوا لوجدوا السنة ضدهم. • نظرة في أحاديث زكاة الفطر: من الثابت أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخرج زكاة الفطر، ويأمر بإخراجها بعد صلاة الفجر، وقبل صلاة العيد من يوم الفطر. وكان الوقت كافيا لإخراجها وإيصالها إلى مستحقيها، لصغر حجم المجتمع، ومعرفة أهله بعضهم لبعض، ومعرفة أهل الحاجة منهم، وتقارب منازلهم، فلم يكن في ذلك مشكلة. فلما كان عصر الصحابة، اتسع المجتمع، وتباعدت مساكنه، وكثر أفراده، ودخلت فيه عناصر جديدة، فلم يعد الوقت ما بين صلاة الصبح وصلاة العيد كافياً، فكان من فقه الصحابة أن كانوا يعطونها قبل العيد بيوم أويومين. وفي عصر الأئمة المتبوعين من الفقهاء المجتهدين ازداد المجتمع توسعا وتعقيدا فأجازوا إخراجها من منتصف رمضان، كما في المذهب الحنبلي، بل من أول رمضان كما في المذهب الشافعي. ولم يقفوا عند الأطعمة المنصوص عليها في السنة، بل قاسوا عليها كل ما هو غالب قوت البلد. بل زاد بعضهم جواز إخراج القيمة، لا سيما إذا كانت أنفع للفقير، وهومذهب أبي حنيفة وأصحابه، إذ المقصود (إغناء المساكين) في هذا اليوم الكريم، والإغناء كما يتحقق بالطعام يتحقق بدفع قيمته، وربما كانت القيمة أوفى بمهمة الإغناء من الطعام، وخصوصا في عصرنا، وفي هذا رعاية لمقصود النص النبوي، وتطبيق لروحه، وهذا هوالفقه الحقيقي. • السنة بين اللفظ والروح أو بين الظواهر والمقاصد: إن التمسك بحرفية السنة أحيانا لا يكون تنفيذا لروح السنة ومقصودها، بل يكون مضادا لها، وإن كان ظاهره التمسك بها. خذ مثلا تشدد الذين يرفضون كل الرفض إخراج زكاة الفطر بقيمتها نقدا، كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وهوقول عمر بن عبد العزيز وغيره من فقهاء السلف.. وحجة هؤلاء المتشددين أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجبها في أصناف معينة من الطعام وهي: التمر والزبيب والقمح والشعير، فعلينا أن نقف عند ما حدده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نعارض السنة بالرأي. ولوتأمل هؤلاء الإخوة في الأمر كما ينبغي له، لوجدوا أنهم خالفوا النبي صلى الله عليه وسلم، في الحقيقة وإن اتبعوه في الظاهر. أقصد أنهم عنوا بجسم السنة وأهملوا روحها. فالرسول صلى الله عليه وسلم راعى ظروف البيئة والزمن، فأوجب زكاة الفطر مما في أيدي الناس من الأطعمة، وكان ذلك أيسر على المعطي، وأنفع للآخذ. فقد كانت النقود عزيزة عند العرب، وخصوصا أهل البوادي، وكان إخراج الطعام ميسورا لهم-والمساكين محتاجون إليه-لهذا فرض الصدقة من الميسور لهم، حتى إنه رخص في إخراج (الأقط)-وهواللبن المجفف المنزوع زبده-لمن كان عنده وسهل عليه، مثل أصحاب الإبل والغنم والبقر من أهل البادية. فإذا تغير الحال، وأصبحت النقود متوافرة، والأطعمة غير متوافرة، أو أصبح الفقير غير محتاج إليها في العيد، بل محتاجا إلى أشياء أخرى لنفسه أولعياله، كان إخراج القيمة نقدا هوالأيسر على المعطي، والأنفع للآخذ. وكان هذا عملا بروح التوجيه النبوي، ومقصوده. إن مدينة القاهرة وحدها فيها أكثر من اثني عشر مليون مسلم، لوكلفتهم بإخراج اثني عشر مليون صاع من القمح أوالذرة أوالشعير أوالتمر أوالزبيب، فمن أين يجدونها؟ وأي عسر وحرج يجدونه، وهم يبحثون عنها في أنحاء القرى، حتى يعثروا عليها كلها أوبعضها؟ وقد نفى الله عن دينه الحرج، وأراد بعباده اليسر ولم يرد بهم العسر!. وهب أنهم وجدوها بعد لأي وعناء، فماذا يستفيد الفقير من هذه الحبوب؟ وهو لم يعد يطحن ولا يعجن ولا يخبز، إنما يشتري الخبز جاهزا من المخبز؟ إننا نلقي عليه عبئا حين نعطيها له حبا، ليتولى بعد ذلك بيعه، ومن يشتريه منه، والناس كلهم من حوله لم يعودوا في حاجة إلى الحب؟! وهل نكون بذلك قد حققنا مقصد الشرع الذي أمرنا بإغناء المساكين في هذا اليوم؟ إننا في الواقع لم نعنهم بهذه الحبوب ولم نسعفهم، ولم نقض أي حاجة من حاجاتهم، فكيف نكون مع هذا متبعين للسنة؟!. ولقد حدثني بعض الإخوة في بعض البلاد التي يمنع علماؤها إخراج القيمة أن المزكي للفطر يشتري صدقة فطره من التجار بخمسين ريالا مثلا، فيسلمه للفقير، فيبيعه الفقير في الحال لنفس التاجر بثلاثين ريالا، وأحيانا بما هو أقل، وأحيانا يرفض شراءه لكثرة ما عنده. ويظل الطعام أوالتمر يباع ثم يشترى هكذا مرات ومرات! والواقع أن الفقير لم يأخذ طعاما! إنما أخذ نقدا، بأنقص مما لودفع المزكي القيمة له مباشرة، فهو الذي يخسر الفرق ما بين ثمن شراء المزكي من التاجر، وثمن بيع الفقير له، فهل جاءت الشريعة لمصلحة الفقراء أو بضدها؟ وهل الشريعة شكلية إلى هذا الحد؟!. وهل التشديد في هذا على الناس كل الناس اتباع للسنة حقا؟! أومخالفة لروح السنة التي شعارها دائما: " يسروا ولا تعسروا "؟ ثم إن الذين لم يجيزوا إخراج القيمة في زكاة الفطر، أجازوا إخراج أنواع من الطعام لم ينص عليها الحديث، إذا كانت هي غالب قوت البلد!. وهذا نوع من التأويل للسنة، أوالقياس على النص، قلدوا فيه أئمتهم، ولم يجدوا فيه حرجا، وهو– في رأينا – قياس صحيح، وتأويل مقبول. فلماذا كان الرفض الشديد لفكرة القيمة في زكاة الفطر، مع أن المقصود بها إغناء المساكين عن السؤال والطواف في هذا اليوم؟ ولعل هذا يتحقق بدفع القيمة أكثر مما يتحقق بدفع الأطعمة العينية. نحن نوجب دفع الأطعمة في حالة واحدة، وهي (حالة المجاعة) التي يحتاج الناس فيها إلى الطعام أكثر من حاجتهم إلى النقود، وقد توجد النقود عند الإنسان ولكنه لا يجد الطعام، فهنا يجب دفع الطعام لأنه هو الذي يسد حاجة المسكين. 4- تحريم التصوير الفوتوغرافي والتلفزيوني: ومن مواقف أصحاب هذه المدرسة المشهورة التشدد في تحريم التصوير (الفوتوغرافي) الذي عرفه الناس في عصرنا، والذي تطور كثيرا، حتى أمسى يصور الأشخاص متحركين ومتكلمين، كما نشاهد ذلك في التصوير التلفزيوني. ومنذ ظهرت هذه الآلة (الفوتوغرافيا) في حياة الناس، بادر العلماء ببيان حكمها، فمنهم من أباحها، ومنهم من كرهها، ومنهم من حرمها. وكانت الإباحة هي الرأي الأشهر الذي أفتى به كبار علماء الأمة، ومن أظهرهم مفتي المملكة المصرية في زمنه العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي، الذي ناقش الموضوع في رسالة (القول الكافي في إباحة التصوير الفوتوغرافي) وانتهى إلى القول بحلّه وإباحته، ناظرا إلى أن العلة التي ذكرتها الأحاديث المحرمة للتصوير، والتي لعنت المصورين هي أنهم يضاهون خلق الله. وهذا ينطبق على التصوير (المجسّم) وهو ما نسميه (التماثيل). أما هذا التصوير، فليس فيه مضاهاة خلق الله. وإنما هوخلق الله نفسه، انعكس على الورق المخصوص، كما تنعكس الصورة على المرآة. ويؤكد هذا الكلام الذي قاله الشيخ بخيت أن أهل قطر والخليج هنا يسمون الصورة عكسا، والمصور عكّاس، ويقال له: متى آخذ العكوس منك؟ وهذا واضح في التصوير الفيديوي، والتلفزيوني، حيث يشاهد الإنسان خلق الله كما هو، ولا تتضح فيه فكرة المضاهاة، التي هي علة التحريم، كما تنطق بذلك الأحاديث. وكم ناقشت الإخوة المتشددين في هذا الأمر، فلم يلينوا أبدا. وقلت لهم إن الوعيد الشديد الذي ورد في السنة في هذا الأمر (مثل: أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون) لا يتلاءم مع حجم المخالفة المذكورة في الحديث؛ إذ مجرد تصوير الإنسان على صورته التي خلقه الله عليها ليست فيها مفسدة ملحوظة، ولا ضرر بالنفس أوبالغير، يستوجب هذا الوعيد كله. فلا بد أن يكون المقصود بالمصورين هنا شيئا آخر، مثل الذين يصورون الأصنام وغيرها مما يعبد من دون الله. وقد أفتى هؤلاء بتحريم مشاهدة التلفزيون، أو إدخاله في بيت المسلم، لا لأنه يعرض أشياء محظورة شرعا مثل الرقص والأغاني الخليعة، والمناظر الخارجة من أدب الإسلام، بل هوحرام لأنه قائم على التصوير المحرم، وإن كان كل ما يعرضه حلالا لا شائبة فيه. وأذكر أنني شاركت في المؤتمر العالمي الأول للدعوة والدعاة، الذي دعت إليه الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وفي الجلسة الافتتاحية حضر تلفزيون المدينة ليأخذ صورة حية من هذا الجمع الحاشد من مئات العلماء الذين حضروا من أنحاء العالم الإسلامي، وأبى نائب رئيس الجامعة أن يسمح لهم بذلك، باعتبار هذا منكرا لا يليق أن يرتكب في رحاب جامعة إسلامية، رغم أن جمهور المشاركين يجيزون ذلك، ولا يرون به بأسا. • قيام الشريعة على رعاية المصالح: ومما يرد على دعوى هؤلاء ما اتفق عليه جمهور علماء الأمة من أن الشريعة إنما أنزلت لتحقيق مصلحة العباد في المعاش والمعاد، وأن الله سبحانه لا يعود عليه بشيء منها، فهو غني عن العالمين، وإنما أراد بها الخير والصلاح لخلقه. فلا بد للعالم من تحري معرفة مقصود الله تعالى من شرعه، وليس لأحد أن ينفي عن الشريعة الحكمة والمصلحة فيما جاءت به. ومن الكلمات المضيئة التي يتناقلها أهل العلم هنا ما قاله الإمام ابن القيم في (إعلامه): (إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد، في المعاش والمعاد. وهي عدل كلها، ورحمة كلها، وحكمة كلها، ومصلحة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل) . وهذا كلام ينبغي أن نعض عليه بالنواجذ، وأن نواجه به الذين يتمسحون بابن القيم وشيخه ابن تيمية، ولكنهم لم يحملوا عنهما هذه الروح، وهذه البصيرة، التي تنظر إلى الشريعة هذه النظرة،وترى ذلك أساسا لتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والإنسان، وفقا للمقاصد والأهداف والمصالح التي راعاها الشارع عند تشريعه للحكم، إيجابا أو استحبابا، أو تحريما أو كراهة أو إباحة. والأدلة على وجوب تغير الفتوى بتغير موجباتها كثيرة لا يتسع المقام لها هنا. وقد بينَّاها في كتب أخرى . إنما الذي يهمنا ذكره وتأكيده هنا ما نبَّه عليه ابن القيم، وهو ارتباط ذلك بتقرير قيام الشريعة على رعاية المصالح، فإذا تغير الحال، ولم يعد الحكم القديم محققا للمصلحة، وجب أن يتغير. وعلى هذا الأساس يجب مطاردة فكرة (الحيل) التي انتشرت لدى بعض المتأخرين للتحايل على فعل بعض المحرَّمات، أوإسقاط بعض الواجبات. كما نؤكد هنا على أن كل حكم شرعي لابد أن يكون وراءه تحقيق مصلحـة، ضرورية أو حاجية أو تحسينية، وفق تقسيم الأصوليين لمراتب المصالح. وقد يكون تحقيق المصلحة في صورة سلبية، بمعنى درء المفسدة. وقد جوَّد الإمام أبو إسحاق الشاطبي في (موافقاته) الحديث عن هذه (المقاصد) وأفرد لها جزءاً خاصاَّ من كتابه ينبغي أن يُراجَع . كما أفرده بالتأليف في عصرنا العلاَّمة محمد الطاهر بن عاشور، واستدرك بعض الاستدراكات المهمة، كما كتب العالم الأزهري الفقيه الشيخ محمد مصطفى شلبي كتابه (تعليل الأحكام) الذي حصل به على شهادة (العالمية من درجة أستاذ) من الأزهر عام 1944م. وكتب فيه كثير من العلماء والباحثين في عصرنا، وقدمت له رسائل للدكتوراة لعل أشهرها رسالة العالم الباحث المغربي المعروف الدكتور أحمد الريسوني، وباب العلم مفتوح، ولكل مجتهد نصيب. • فقهاء الصحابة ينظرون إلى مقاصد الشريعة: ومن استقرأ ما أثر عن فقهاء الصحابة – رضي الله عنهم- مثل الخلفاء الراشدين، وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعائشة، ومعاذ وزيد بن ثابت، ونظر إلى فقههم وتأمله بعمق تبين له أنهم كانوا ينظرون إلى ما وراء الأحكام من علل ومصالح، وما تحمله الأوامر والنواهي من حكم ومقاصد، فإذا أفتوا في مسألة، أوحكموا في قضية، لم تغب عن بالهم مقاصد الشريعة وأهدافها، ولم يهدروا هذه المقاصد الكلية في غمرة الحماس للنصوص الجزئية، ولا العكس، بل ربطوا الجزئيات بالكليات، والفروع بالأصول، والأحكام بالمقاصد، بعيداً عن الحرفية والجمود. • معاذ يأخذ القيمة في الزكاة: ولهذا وجدنا معاذ بن جبل الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن معلما وقاضيا وواليا، وأمره أن يأخذ الزكاة من أغنيائهم، ليردها في فقرائهم. وحذَّره أن يأخذ كرائم أموالهم، أي أحسنها وأفضلها (من المواشي والزروع وغيرها)، بل يأخذ الوسط منها- لا الأجود ولا الرديء- وكان مما قاله له فيما رواه أبوداود وغيره: " خذ الحَبَّ من الحَبِّ، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقرة من البقر" . ولكن معاذا – رضي الله عنه – الذي جاء في الحديث أنه أعلم الصحابة بالحلال والحرام - لم يجمد على ظاهر الحديث، بحيث لا يأخذ من الحَبِّ إِلا الحَبَّ…إلخ؛ ولكنه نظر إلى المقصد من الزكاة- وهوالتزكية والتطهير للغني: نفسه وماله، وسد خلة الفقراء من المؤمنين، والمساهمة في إعلاء كلمة الإسلام، كما تُنبئ عن ذلك مصارف الزكاة، فلم ير بأسا من أخذ قيمة العين الواجبة في الزكاة، وخصوصا من أهل اليمن الذين أظلهم الرخاء في رحاب عدل الإسلام، في حين تحتاج عاصمة الخلافة إلى مزيد من المعونات، فكان أخذ القيمة – ملبوسات ومنسوجات يمنية- أيسر على الدافعين، وأنفع للمرسَل إليهم من فقراء المهاجرين وغيرهم من المدينة. هذا ما ذكره البخاري في صحيحه معلقاً بصيغة الجزم، ورواه البيهقي في سننه بسنده عن طاوس عن معاذ أنه قال لأهل اليمن: ((ائتوني بخميس أو لبيس آخذه منكم مكان الصدقة، فإنه أهون عليكم، وخير للمهاجرين بالمدينة)) . وهذا ما ذهب إليه الثوري وأبوحنيفة وأصحابه، وروي عن عمر بن عبد العزيز والحسن البصري من جواز أخذ القيمة بدل العَيْن في الزكاة، وروي عن أحمد في غير زكاة الفطر. وهوالظاهر من مذهب البخاري في صحيحه، وافق فيه الحنفية على كثرة ما خالفهم، إذ وجد الدليل معهم . • عمر ينقل العاقلة من القبيلة إلى الديوان: ووجدنا الفاروق عمر بن الخطاب – بمحضر من الصحابة – ينقل العاقلة من ((القبيلة)) إلى ((الديوان)) بعد أن دوَّن الدوواوين، وقيَّد عليها المستحقين للعطاء من الدولة، وذلك أن ((التناصر)) الذي كان أساسه من قبْلُ العصبية القبلية قد تغير الآن. وقد كان هذا التناصر القبلي هو علة فرض تحمل العصبية أوالقبلية للدية، فما دام قد تغير فإن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، ولا يتصور من عمر أن يخالف ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولكنه عرف المقصود فوقف عنده. وقد اختلف أئمة المذاهب فيما ذهب إليه عمر وأقره عليه الصحابة، فمنهم من وقف عند ظاهر قضائه صلى الله عليه وسلم بالدية في قتل الخطأ وشبه العمد على العاقلة، وهم (عَصَبة الرجل) من قبيلته أوعشيرته فأخذوا بظاهر ذلك وأوجبوا أن تكون العاقلة هي العصبة أبدا، ولم ينظروا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم، إنما أناط الدية بالعصبة، لأنها - في ذلك الزمن – كانت محور النصرة والمعاونة والمعاضدة. وخالفهم آخرون كالحنفية، مستدلين بفعل أمير المؤمنين عمر الذي جعلها في عهده على (أهل الديوان)، ناظرا إلى مقصود ما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم في عهده. وقد بحث ذلك الإمام ابن تيمية في فتاويه فقال: " النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة، وهم الذين ينصرون الرجل ويعينونه، وكانت العاقلة على عهده هم عصبته، فلما كان في زمن عمر جعلها على أهل الديوان، ولهذا اختلف فيها الفقهاء، فيقال أصل ذلك أن العاقلة هل هم محددون بالشرع، أوهم من ينصره ويعينه من غير تعيين؟ فمن قال بالأول لم يعدل عن الأقارب، لأنهم العاقلة على عهده. ومن قال بالثاني جعل العاقلة في كل زمن ومكان من ينصر الرجل ويعينه في ذلك الزمان والمكان، إذ لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ديوان ولا عطاء. فلما وضع عمر الديوان، كان معلوما أن جند كل مدينة ينصر بعضه بعضا، ويعين بعضه بعضا، وإن لم يكونوا أقارب، فكانوا هم العاقلة، وهذا أصح القولين، وأنها تختلف باختلاف الأحوال، وإلا لو رجل قد سكن بالمغرب، وهناك من ينصره ويعينه كيف تكون عاقلته من بالمشرق في مملكة أخرى؟! (أي من عصبته) ولعل أخباره قد انقطعت عنهم، والميراث يمكن حفظه للغائب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في المرأة القاتلة أن عقلها على عصبتها، وأن ميراثها لزوجها وبنيها. فالوارث غير العاقلة" . ولهذا أفتيت في عصرنا بأن العاقلة اليوم يمكن أن تنقل إلى (النقابات) المهنية، فإذا قتل الطبيب خطأ، فديته على نقابة الأطباء، والمهندس على نقابة المهندسين.. وهكذا. وهذا لابد منه في المجتمعات التي تقوم على (عوائل) محدودة العدد، محدودة القدرة، لا على قبائل وعشائر كبيرة. مثل المجتمع المصري وغيـره، فلا يوجد لجمهور الناس عاقلة من عصبية يمكن أن تتحمل ديته، إذا قتل خطأ كما في حوادث السير. المدرسة الثانية: مدرسة (المعَطِّلَة الجُدُد) تعطيل النصوص باسم المصالح والمقاصد والمدرسة الثانية المقابلة لمدرسة (الظاهرية الجدد) التي تحدثنا عنها هي المدرسة التي تغفل النصوص الجزئية، بل تتعمد الإعراض عنها، وتزعم أنها إنما تنظر إلى المصالح العامة، والمقاصد الكلية. وهؤلاء أسميهم: (مدرسة التعطيل للنصوص) أو(المعَطِّلَة الجُدُد) الذين ورثوا (المعَطِّلَة القدامى) الذين عطلوا أسماء الله تعالى من معانيها الحقيقية. فهؤلاء القدامى عطلوا في مجال العقيدة، وهؤلاء الجدد عطلوا في مجال الشريعة، وكلاهما تعطيل مذموم. فأولئك المعطلة الجدد اجترؤوا على نصوص الشرع، التي جاء بها الوحي المعصوم في القرآن العزيز، والسنة المشرفة، فردوها بلا مبالاة، وجمدوها بلا أثارة من علم أو هدى، إتباعا لهوى أنفسهم، أو أهواء الآخرين ممن يريدون أن يفتنوهم عن بعض ما أنزل الله إليهم من الحق، والله تعالى إنما يريد من عباده أن يأخذوا الحق كله، ويؤمنوا بالكتاب كله، ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبلهم من بني إسرائيل، الذين قرّعهم الله تعالى بأنهم آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض. قال سبحانه: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض، فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا، ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب، وما الله بغافل عما تعملون) البقرة: 85. ولقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بين الناس – خصوصا أهل الكتاب- بما أنزل الله إليه، ونهاه عن إتباع أهوائهم، وحذره أن يفتنوه عن بعض ما أنزل الله إليه، فقال عز وجل: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك) المائدة: 49
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
malsdiik




عدد المساهمات : 8
نقاط : 16
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 27/04/2010

دراسة في فقه مقاصد الشريعة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: دراسة في فقه مقاصد الشريعة    دراسة في فقه مقاصد الشريعة  Emptyالثلاثاء ديسمبر 28, 2010 11:30 am

. خصائص مدرسة المعطلة ولهذه المدرسة: خصائص وسمات تميزهم، وتحدد ملامحهم، أهمها: 1. الجهل بالشريعة: أولاها: الجهل بالشريعة؛ بمصادرها وأصولها وأحكامها، وفقهها الثري. فهم لا يكادون يعرفون شيئا من القرآن، وجلهم – إن لم يكن كلهم- لا يحسنون أن يقرأوا بعض آيات منه قراءة صحيحة، ولا يعرفون علوم القرآن، ولا يصبرون على قراءة تفاسيره ؛ ما كان منها تفسيرا بالرواية، وما كان بالرأي والدراية. ولا يعرفون في الحديث وعلومه كثيرا ولا قليلا، بل لعلهم لا يعرفون الفرق بين الحديث الصحيح والحديث الحسن والحديث الضعيف، ولا بين الحديث المرفوع والموقوف والمقطوع، ولا بين الموصول والمنقطع والمعضل والمعلق. ولا يعرفون علم أصول الفقه، ولا أدركوا أغواره ومدارسه، ومباحثه وما فيها من اتفاق واختلاف. ولا يعرفون علم الفقه، ولا خاضوا بحاره، ولا صبروا على هضمه وتحصيله، ولا كلفوا أنفسهم قراءة بعض كتبه، من الفقه المذهبي، أوالفقه العام. ولا يعرفون اللغة وعلومها، وهي التي يعدها علماء الشرع من (العلوم الآلية) أي أنها آلة ووسيلة ضرورية لفهم الشريعة. ومع هذا الجهل الغليظ، يدعون أنهم أعلم بالشريعة من أهلها، المتبحرين فيها، والذين نذروا حياتهم لدراستها، والعيش في رحابها. 2. الجرأة على القول بغير علم: وثانيتها: الجرأة على التطاول والادعاء. فمع جهل هؤلاء بالشريعة وأصولها ومصادرها نراهم جرآء على الكلام فيها بغير علم، ونرى الواحد منهم يتحدث أويكتب عن الشريعة، وكأنه شيخ الإسلام أومفتي الأنام! مع أن من أعظم الذنوب عند الله: أن يقول عليه المرء ما لا يعلم، كما قال تعالى عن الشيطان: (إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) البقرة:169. وقال سبحانه: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) الأعراف: 33. ومن أعجب ما كتبه بعض المعاصرين منهم : ***أن الله تعالى إنما أمر رسوله أن يحكم بما أنزل الله بين أهل الكتاب، لا بين المسلمين، فقوله: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) الضمير في (بينهم) لأهل الكتاب. وإني لأعجب كيف ينزل الله كتابا للمسلمين، هومصدر عقيدتهم وشريعتهم، وروح وجودهم، ثم لا يؤمر المسلمون أن يحكموا بهذا الكتاب، وإنما يحكم به بين غير المسلمين وحدهم؟!!. إن أولى الناس أن يُحْكَم بينهم بما أنزل الله هم المسلمون، الذين أنزل لهم الكتاب، وبعث لهم الرسول، ولا يتم لهم إيمان إلا إذا رضوا بحكم الله ورسوله (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا، وأولئك هم المفلحون) النور: 51. إن الناس لن يستغنوا عن هداية الله، وإن بلغوا من العلم ما بلغوا، لأن القصور البشري سيظل يحكمهم، وعلم الله أكبر من علمهم (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) الإسراء: 85. على أن الإنسان قد يعرف الصواب من الخطأ، ويميز الخير من الشر، ولكن تغلبه الشهوات والمصالح الآنية والمادية، فتجعله يحل لنفسه ما يجب أن يحرم، ويوجب على نفسه من الأمور ما لا ينبغي، ويسقط عنها ما لا يجوز أن تعفى منه. وأعظم مثل على ذلك: إباحة الولايات المتحدة الأمريكية الخمر، بعد أن حظرتها، وأصدرت تشريعا بذلك، ثم ضغطت عليها الشهوات والمصالح، فألغت الحظر، وهي تعلم ما وراءه من مآثم وأضرار على العقول والأجسام والأخلاق والاقتصاد والأسر والجماعات. معارضة أركان الإسلام باسم المصالح: ولقد رأينا من جرأة هؤلاء أنهم يعارضون قواطع النصوص باسم مصالح لا حقيقة لها. حتى إن منهم من عارض أركان الإسلام ذاتها من الصلاة والصيام والزكاة والحج، فمنهم من زعم أن الصلاة تعطل عن العمل، وأن الزكاة تشجع البطالة، وأن الصوم يقلل الإنتاج، وأن الحج يأخذ من العملة الصعبة ما نحن في حاجة إليه!. بل منهم من قال: إن القصد من العبادة هو تزكية الأنفس، وقد نستطيع الوصول إلى هذه الغاية بغير العبادة! ومن هؤلاء من نادى بإباحة الزنى وإعادة البغاء الذي كان مباحا في بعض البلاد الإسلامية أيام الاستعمار، ومنهم من طالب بإباحة الخمر، تشجيعا للسياحة، وتظاهرا بالتقدم، ومنهم من نادى بإباحة الربا، تحت دعاوى شتى. ومنهم، ومنهم... معارضة إقامة الحدود باسم المصالح: على أن أبرز ما عارضوه من أحكام الشرعية القطعية باسم المصالح، هو الحدود والعقوبات التي شرعها الله، وأوجب إقامتها – بشروطها وضوابطها- حسما للجريمة، ومطاردة للمجرمين، وتأمينا للمجتمع، مثل حد السرقة، وهو قطع اليد، وحد القذف، وهوالجلد، وحد الزنى من الجلد الثابت بالقرآن، والرجم الوارد في السنة، وحد الحرابة وقطع الطريق الثابت بالقرآن. وهناك حدود ثبتت بالسنة مثل حد السكر، وحد الردة. وهذه تحتمل الاجتهاد. 3. التبعية للغرب: وثالثة الخصائص لهذه المدرسة المعطلة للنصوص هي التبعية للغير، وهذا الغير هوالغرب بشقيه: الليبرالي الرأسمالي، أو الماركسي الاشتراكي، وكليهما*** نابع من الغرب، وهل كان ماركس إلا غربيا قُحّاً؟ وقد سميت هؤلاء من قديم: (عبيد الفكر الغربي) -اليمينيين منهم واليساريين- وقد قيل لي: لماذا لا تسميهم تلاميذ الفكر الغربي؟ قلت لهم: التلميذ النجيب كثيرا ما يناقش أستاذه، وقد يتخذ لنفسه خطا غير خطه، ولكن هؤلاء يأخذون كل مفاهيم سادتهم قضايا مسلّمة، لا يمتحنونها، ولا يناقشونها، ولا يجادلونهم قبلها، فليس لهم وصف يعبر عن حقيقة موقفهم إلا وصف العبيد، الذين ذابت شخصيتهم في ذوات سادتهم. إن قبلتهم ليست الكعبة المشرفة، بل هي لندن أو باريس أو واشنطن أو موسكو وغيرها. ومصادرهم ليست القرآن الكريم، ولا البخاري ومسلما، ولا تفاسير القرآن ولا شروح الحديث، ولا كتب الفقه والأصول، فهذه كتب صفراء لا تليق بالعصر، ولا تصلح للعصر. وأئمتهم ليسوا الصحابة ولا التابعين، ولا الأئمة الأربعة، ولا الثمانية، بل أئمتهم من خارج أرضنا، وخارج حضارتنا وتراثنا. ولذلك يريدون أن ننظر بأعين الغرب، ونسمع بأذن الغرب، ونفكر بعقل الغرب. فما رآه الغرب حسنا فهو عند الله حسن، وما رآه الغرب قبيحا فهو عند الله قبيح! ومن هنا يريدون أن يفرضوا علينا فلسفة الغرب في الحياة، ونظرة الغرب إلى الدين، وفكرة الغرب العلمانية، ونظرات الغرب في القانون والاجتماع والسياسة. كما قال بعضهم يوما: نأكل كما يأكلون، ونلبس كما يلبسون، ونكتب من الشمال إلى اليمين كما يكتبون!! مرتكزات مدرسة المعطلة لنصوص الشريعة ترتكز مدرسة (المعطلة الجدد) لنصوص الشريعة على جملة أمور، تعتبرها العُمُد الأساسية التي تبني عليها نظريتها. 1 ـ إعلاء منطق العقل على منطق الوحي: أولا: على منطق عقلاني محض، تزعم من خلاله: أن الله غني عن خلقه، وأنه أعطاهم العقول ليفكروا بها ويستخدموها في معاشهم ومصالحهم، لا يتركوها هملا، حتى تخرب وتتعطل، ككل شيء لا يستخدم فيما خلق له. صحيح أن الله تعالى أنزل كتابا، وبعث رسولا، ليقيم العدل في الناس ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ولكن بعثة الرسول لا تعني إلغاء العقل الذي عرفنا به صدق رسالة الرسول، وبه فهمنا خطابه، ولكن الرسول لم يبعث ليلغي عقولنا. وقد أمرنا بالنظر في خلق السماوات والأرض، والتفكر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء، وبالتبصر في الآفاق وفي الأنفس. وأهم ما تجول فيه عقولنا وتصول، هو: الكون الذي نعيش فيه، وما سخر الله لنا فيه، وكيف نستفيد مما فيه من نعم ليسعدنا في حياتنا، وييسر علينا معيشتنا، ويساعدنا في أداء مهمتنا على الأرض، وتحقيق ما نصبوا إليه من مصالح تحتاج إليها حياتنا، ودرء ما نخافه من مفاسد تهدد استقرار حياتنا وأمنها وانتظامها وسعادتها. فإذا اهتدت عقولنا إلى مصلحة، وجدنا فيها الخير والنفع لنا: كان علينا أن نحصلها، ولوكانت مصادمة لنص شرعي جزئي، آية من قرآن، أوحديث عن الرسول، لأن القرآن والحديث لم يقصدا أبدا أن يعطلا مصالحنا.. وقد نص القرآن أن الله لم يجعل علينا في الدين من حرج، ولا أراد بنا العسر. وإنما أراد بنا اليسر والتخفيف والتوسعة. كما قال تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) البقرة: 185 وقال تعالى: (هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج) الحج: 78. وقال: (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا) النساء: 28. بمثل هذا المنطق يحتج هؤلاء على دعواهم في تعطيل نصوص الشريعة. وقد عبرت عن فكرتهم بعبارات من عندي، وعرضتها بأسلوب قد لا يستطيعون عرضها بمثله، وخلاصة هذا المرتكز هي إعلاء منطق العقل على منطق الوحي. وهم في هذا غالطون أومغالطون فيما يدعون. أما غلطهم، فهوأن العقل الإنساني مهما بلغ من العلم وارتقى في المعرفة، سيظل في حاجة إلى هُدَى الله، الذي جاء به الوحي الإلهي، ليسدد العقل في مواضع الشبهات، ويثبته عند المزالق المضلة، ويهديه في مفارق الطرق، ويضيف إلى نوره الفطري الداخلي نورا إلهيا من خارجه، فيكون للإنسان (نور على نور). وقد رأينا العقل الإنساني يستبيح أشياء كثيرة أنكرها الوحي أوالشرع الإلهي، كالعرب الذين استباحوا وأد البنات، وحرمانهن من الميراث، والذين أولعوا بالخمر، واستحلوا الربا والكسب الخبيث. ورأينا العقل المعاصر في كثير من البلدان يستبيح الزنى والشذوذ الجنسي والعري الكامل، والمسكرات والمخدرات، وأشياء كان من قبلنا يستحون من مجرد ذكرها على ألسنتهم. وقد رأينا عقل الرأسماليين يحبذ النظام الرأسمالي والفلسفة الفردية، ويبرر أهدافه ووسائله، بغض النظر عن مظالمه، بل لا يرى فيه مظالم أساسا. كما رأينا عقل الشيوعيين يرحب بالنظام الشيوعي وفلسفته الجماعية، وهدمه للملكية الفردية، وقيامه على فلسفة المادية، وصراع الطبقات، ودكتاتورية البلوريتارية، ومصادمته للحرية الإنسانية: دينية ومدنية وفكرية وسياسية. ورأينا العقل الإنساني يتبع فلسفات عبثية وعدمية وغيرها. لهذا كان العقل في حاجة إلى عون إلهي يساعده ويسدده وينير له الطريق-ولا سيما في المآزق والمضايق والمفارق-حتى يتحقق العدل في الأرض، كما قال تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) الحديد:25. وأما مغالطتهم، فهي في تمويههم وإيهامهم أن النصوص الشرعية يمكن أن تعارض المصالح البشرية. وهذا افتراض لم يقم عليه دليل. قد يقع التعارض بين مصلحة وفهم قاصر لبعض العلماء، فليس هناك عالم معصوم، وكل أحد يؤخذ من كلامه ويترك، إلا الرسول المعصوم. ومن كلام العلماء ما يحمل معه (بصمة) الزمان والمكان، فلا يجوز تأبيده في الزمان، ولا تعميمه في المكان. ومثل هذه الأفهام الجزئية يمكن مناقشتها، بل مخالفتها إذا كان معنا الدليل، مالم يسندها إجماع مستيقن. أما النص الثابت، الصريح في دلالته، فيحمل معه أبدا الخير والمصلحة للناس، لأن الله تعالى لا يشرع للناس إلا ما فيه خيرهم وصلاحهم ومنفعتهم في الدنيا والآخرة. ولهذا قال المحققون من علماء الأمة: إن الشريعة إنما جاءت بمصلحة العباد في العاجل والآجل، أوفي المعاش والمعاد. والحق أن هذه الدعوى العريضة – التعارض بين النص والمصلحة- لا يؤيدها دليل من العقل ولا من النقل ولا من الواقع. بل تنقضها الأدلة كلها من صرائح العقول، وصحاح النقول، وثوابت الأصول، وحقائق الواقع. فإن الذي أنزل هذه الشريعة الإلهية، وبين أحكامها، وكلف خلقه العمل بها، هو الذي خلق الناس، وعلم ما هم في حاجة إليه من الأحكام فشرعه، وعلم ما يصلحهم ويرقى بهم من الشرائع فألزمهم به. (ألا يعلم من خلق، وهواللطيف الخبير)؟! الملك: 14. فهو أعلم بهم من أنفسهم، وأبر بهم من أنفسهم، وأرحم بهم من آبائهم وأمهاتهم. وإذا كان خالق الإنسان هو منزل الشريعة، فلا يتصور أن يتناقض ما شرعه مع مصلحة عباده، إلا أن يكون غير عالم بذلك حين شرعه-وهذا لا يقول به مسلم-أويكون علمه، ولكنه أراد أن يعنتهم، ويلزمهم العسر والحرج وهذا منفي بالنصوص القاطعة، قال تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) البقرة: 185. (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون) المائدة: 6، (يريد الله أن يخفف عنكم، وخلق الإنسان ضعيفا) النساء: 28، (ولوشاء الله لأعنتكم، إن الله عزيز حكيم) البقرة:220. 2 ـ ادعاء أن عمر عطَّل النصوص باسم المصالح: ثانيا: يعتمد هؤلاء المعطلة على مواقف لعمر بن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين، زعموا فيها أنه رضي الله عنه عطَّل النصوص حين رآها عارضت المصلحة، وهو أحد الذين أُمِرنا أن نستن بسنته "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ" ، " اقتدوا بالذين من بعدي: أبي بكر وعمر" . وذكروا من المواقف العمرية هذه عدة أشياء، مثل تعطيل سهم (المؤلفة قلوبهم) وهو أحد مصارف الزكاة بنص القرآن في الآية (60) من سورة التوبة (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم...). ومثل إيقاف حد السرقة عام المجاعة، مجمدا قوله تعالى: (السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم) المائـدة: 38. ومثل تعطيل آية تقسيم الغنائم بين المقاتلين وغيرهم، وهي قوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) الأنفال: 41. فهذه مصارف الخمس، أما الأربعة أخماس،فهي للمقاتلين. ولكن عمر لم يطبق مفهوم الآية في تقسيم سواد العراق. وهذه الدعوى على ابن الخطاب باطلة بيقين. وقد رددنا عليها بالتفصيل في كتابنا (السياسة الشرعية في ضوء النصوص والمقاصد) وفندناها كلها قضية قضية. ولا ضرورة لنعيدها هنا، فليراجعها من أراد هناك. حسبي أن أشير إلى قضيتين لعلهما أشهر ما يُدّعى به على عمر أنه عطّل فيهما النصوص القطعية، حين تعارضت مع المصلحة، وهما: قضية (المؤلفة قلوبهم) وقضية (إيقاف حد السرقة في عام المجاعة). • دعوى إلغاء سهم (المؤلفة قلوبهم): أما الادعاء على عمر أنه ألغى مصرف (المؤلفة قلوبهم) الثابت بالقرآن، فهذا لا شك فهم خاطئ لما صنعه عمر، وإنما منع عمر أن يعطي من الزكاة أو من غيرها قوما كانوا مؤلَّفين في عهد الرسول وعهد أبي بكر، ورأى عمر أنهم لم يعودوا يستحقون الأخذ من بيت مال المسلمين بهذا الوصف (المؤلفة قلوبهم) لأن الله أعز الإسلام وأغنى عنهم. فأي نص علَّقه عمر أوجمده حين رفض أن يعطي أناسا معينين؟ إن القرآن الكريم نص على أن للمؤلفة قلوبهم سهما في الصدقات، كما لسائر المصارف السبعة الأخرى، المذكورة في آية التوبة المعروفة، ولم ينص القرآن على أن يظل عيينة بن حصن الفزاري، أو الأقرع بن حابس التميمي، وأمثالهما من زعماء القبائل مؤلفة قلوبهم أبد الدهر. وكل الذي فعله عمر أنه أوقف الصرف لهؤلاء، إذ لم يعد يعتبرهم من المؤلفة قلوبهم، إما لأنهم قد حسن إسلامهم بمضي الزمن والتفقه في الإسلام، والاندماج برجاله الصادقين، ***وإما لأن قبائلهم كانوا هم القوة الأولى المؤثرة عليها، وقد حسن إسلامها، ولم تعد تبالي بهم حتى لو ارتدوا والعياذ بالله، وإما لأن الإسلام نفسه قد قويت شوكته، وعزت دولته، ولم يعد يخشى من فتنة يقوم بها بعض الطامعين في المال من القبائل أو زعمائها. (وخصوصا بعد أن انتصر على كسرى وقيصر). ***أيما كان السبب، فلم يعد هؤلاء-في رأي عمر-من المؤلفة قلوبهم، الذين يستحقون الأخذ من الصدقات أو غيرها، ومنع هؤلاء لا يعني إبطال سهم المؤلفة قلوبهم، فلم يقل عمر ذلك. وقد شرح العلامة الشيخ محمد المدني تصرف عمر شرحا علميا رصينا بمنطق فقهي سليم، يحسن بي أن أنقله هنا لما فيه من قوة ونصاعة. قال رحمه الله: (إن حقيقة الأمر في ذلك أن عمر والصحابة الذين وافقوه ومن جاء بعدهم من العلماء، لم يخرجوا عن دائرة النص، ولم يعلقوه، وإنما فهموا أن الله سبحانه وتعالى لما قال: (والمؤلفة قلوبهم) أثبت لفريق من الناس نصيبا من الزكاة بوصف معين هومناط الاستحقاق، ووجوب الإعطاء، هو كونهم (مؤلفة قلوبهم. ولما كان التأليف ليس وصفا طبيعيا يحدث للناس كما تحدث الأعراض الطبيعية، بل هو شيء يقصد إليه ولي الأمر، إن وجد الأمة في حاجة إليه، ويتركه إن وجدها غير محتاجة إليه، فإذا اقتضت المصلحة أن يؤلف أناسا وألَّفهم فعلا أصبح الصنف موجودا، فيستحق، وإذا لم تقتض المصلحة ذلك فلم يتألف أحدا، فإن الصنف حينئذ يكون معدوما، فلا يقال: إنه منعه؛ لأنه ليس معنا أحد يجري عليه الضمير البارز "منعه". وبذلك يتبين أن النص لم يعطل ولم يعلق، وإنما المحل هوالذي انعدم، فلو أن ظرفا من الظروف على عهد عمر-أوغيره من بعده-قضى بأن يتألف الإمام قوما فتألفهم، لأصبح الصنف موجودا، فلا بد من إعطائه. وقد يرد على هذا: أن المؤلفة قلوبهم كانوا موجودين فعلا على عهد عمر، وهم الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تألفهم، فعمر منعهم مع وجودهم، فلا يقال إذن: إن عدم الإعطاء لعدم وجود الصنف، وإنما هو لمعنى مصلحي قدره عمر، وهو: أن الإسلام قد أعزه الله، ولم يعد هناك سبب للتأليف، وهذا يتفق مع ما يقرره بعض العلماء من أن إعطاء المؤلفة قلوبهم حكم معلل بحاجة الإسلام إلى التأليف، فإذا انتفت علته انتفى، لأن الحكم المعلل، يدور مع علته وجودا وعدما. وقد يرد علينا هذا، وربما كانت عبارة عمر المروية في هذا الشأن، وهي قوله: "إن الله قد أعز الإسلام وأغنى عنكم" مؤيدة لهذا الإيراد. ونقول في الرد على ذلك: إن قول عمر للمؤلفة قلوبهم الذين كانوا يأخذون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أعز الإسلام وأغنى عنكم" معناه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ألف قلوبكم لمصلحة الإسلام، فصار لكم هذا الوصف، وصف المؤلفة قلوبهم، فأعطاكم، لكن هذا الوصف لم يستمر لكم إلى الآن، لأن الإسلام قد عز واستغنى، فزالت الحاجة إلى التأليف، فلم يبق بيننا "مؤلفة قلوبهم" بمعنى أنهم موصوفون بهذا الوصف الآن، وإن كانوا "مؤلفة قلوبهم " باعتبار ما مضى. وهذا الوصف مما يتغير ويتبدل كوصف الفقر، فقد يكون المرء فيما مضى فقيرا، فيكون له في الزكاة نصيب، ثم يصبح غنيا فلا يكون له فيها نصيب. ولا ينبغي أن يتوهم أن هؤلاء الناس استحقوا هذا الوصف إلى آخر عمرهم، أو أن الإمام يجب أن يعدهم كذلك إلى آخر عمرهم، وإنما الأمر-أمر تقدير المصلحة-في نظر الإمام، فإن أداه اجتهاده إلى أن يتألف أُعطى، وإلا فلا. وإذن فليس معنا نص أوقف العمل به أوعُلّق، أونُسخ أوعُدّل، ولكن معنا نص معمول به، لأن معناه مقيد من أول الأمر بالقيد الطبيعي الذي لا يعقل انفكاكه عنه، كأنه قيل: والمؤلفة قلوبهم إن وجدوا، كما يقال مثل هذا في الفقراء والمساكين مثلا، إنما الصدقات للفقراء إن وجد فقراء، والمساكين إن وجد مساكين، وفي الرقاب إن وجدت رقاب مملوكة. فإذا كان هناك من يريد أن يحاول أن يجادل عمر رضي الله عنه في أن التأليف-أي إيجاد صنف المؤلفة قلوبهم-واجب على الإمام في كل حال، فهذا جدال في موضع من مواضع الاجتهاد، وليس في محل النص. والفرق بين وجوب التأليف، ووجوب إعطاء المؤلفة قلوبهم حين يكون هناك تأليف واضح. فالأول: أمر مصلحي يختلف فيه النظر، والثاني: حكم نصي لا يمكن التصرف فيه بالإبطال، أو التعديل، أو التعليق). انتهى كلام الشيخ المدني. تعليق الشيخ الغزالي: ويعلق الداعية الكبير الشيخ محمد الغزالي رحمه الله على موقف عمر، فيقول: " فَهمُ صنيع عمر على أنه تعطيل للنص خطأ بالغ، فعمر حرم قوما من الزكاة، لأن النص لا يتناولهم، لا لأن النص انتهى أمده. هب أن اعتمادا ماليا في إحدى الجامعات خصص للطلبة المتفوقين، فتخلف في المضمار بعض من كانوا يصرفون بالأمس مكافآتهم، فهل يعد حرمانهم إلغاء للاعتماد؟! إنه باق يصرف منه من استكملوا شروط الصرف. وقد رفض عمر إعطاء بعض شيوخ البدو ما كانوا ينالونه من قبل، تألفا لقلوبهم، أوتجنبا لشرورهم... أبعد هزيمة كسرى وقيصر يبقى الإسلام يتألف حفنة من رجال القبائل الطماعين؟ ليذهبوا إلى الجحيم إن رفضوا الحياة كغيرهم من سائر المسلمين؟! • إيقاف عمر حد السرقة في عام المجاعة: وأما دعواهم على عمر: أنه أوقف حد السرقة في عام المجاعة المشهور بعام (الرمادة)، فالحقيقة أن عمر لم يوقف حدا استوفى شروطه، فوجبت إقامته، بل كان عمر ممن يرى أن الحدود تسقط بالشبهات. وقد ورد في ذلك بعض الأحاديث، منها: "ادرؤوا الحدود ما استطعتم، ومن وجدتم له مخرجا فخلوا سبيله، ولأن يخطئ الإمام في العفوخير من أن يخطئ في العقوبة" ، والحديث وإن كان ضعيف السند، فإن معناه صحيح. والمذاهب المتبوعة كلها تسقط الحد بالشبهة. وأعتقد أن عمر رأى وجود المجاعة العامة مظنة شبهة عامة جديرة بأن توقف الحد، إذ الغالب أن لا يسرق السارق في هذا الظرف إلا من حاجة. تعليق الشيخ المدني: وأنقل هنا أيضا تعليق العلامة الشيخ محمد المدني رحمه الله في نظراته في فقه عمر، إذ قال: إن عمر رضي الله عنه لم يعلق هنا نصا، ولم يعدل، ولم ينسخ – وحاشاه أن يرى لنفسه هذا الحق- وإنما فهم أن آخذ المال في عام المجاعة لا يوصف بأنه سارق، لأنه يرى لنفسه حقا فيما يأخذ، والسرقة هي أخذ الإنسان ما لا له حق فيه خفية. بيان ذلك: أن من أصول الإسلام القطعية: التكافل بين الناس، على معنى أنه يجب على المجتمع وجوبا كفائيا أن يغيث أفراده الذين نزلت بهم الفاقة، حتى أوردتهم موارد الضرورة، فإذا لم يقم المجتمع بهذا الواجب الكفائي للمضطرين كان آثما، وكان للمضطر أن يأخذ ما يقيت به نفسه ويدفع ضرورته. وعام المجاعة من غير شك، هو ظرف زماني يغلب فيه وجود أفراد مضطرين على هذا النحو، فهو مظنة لوجوب الحق لهم على المجتمع، ولا ينظر في هذا لتحقق الضرورة فعلا بالنسبة لشخص السارق، أو عدم تحققها حتى يقطع أو لا يقطع، فإن هذا موطن من مواطن الحدود، والحدود تدرأ بالشبهات، فيكفي أن يقول الحاكم: لعل هذا إنما سرق لضرورة ألجأته إلى السرقة، فتكون هذه شبهة قوية تدرأ عنه الحد. أما لوكان العام ليس عام مجاعة، وإنما هو عام يسر ورخاء، فإن هذه الشبهة لا تكون قوية، ولا يجوز درء الحد بها، لأن العبرة في الشبه التي تدرأ بها الحدود إنما هي بقوتها، وتأييد الظروف لها. بم تعلق فقه عمر؟ فعمر بن الخطاب يتعلق فقهه بلفظ وارد في النص، هوقولـــه تعالى: (والسارق والسارقة) فيفسره بأنه آخذ ما لا حق له فيه خفية، ثم يطبق مفهومه على السارق في عام المجاعة، فيراه آخذاً ما له حق فيه، ومن ثم لا يشمله النص، فلا يجب قطعه، ثم يعمق فقهه هذا فيقرر أن منطقة الضرورة، وهي عموم الأمر ظناً في عام المجاعة تنزل منزلة الضرورة الفعلية، ومن ثم لا يجب الفحص في عام المجاعة عن حالة سارق بعينه، ليعلم أكان في فاقة وضرورة؟ أم لم يكن؟ ومما يدل على نظرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تفسير السرقة، بأنها أخذ الإنسان ما لا حق له فيه ما رواه القاسم بن عبد الله من أن رجلا سرق من بيت المال، فكتب فيه سعد بن أبي وقاص لعمر بن الخطاب، فكتب إليه عمر: "أن لا قطع عليه؛ لأن له فيه نصيبا". فقه عليّ شبيه بفقه عمر رضي الله عنهما: ولذلك أيضا نظير فيما يروى من فقه علي رضي الله عنه، فقد حدث سفيان الثوري عن سماك بن حرب عن عبيد بن الأبرص: "أن علي بن أبي طالب أتي برجل قد سرق من الخمس (أي خمس الغنيمة) مغفرا فلم يقطعه علي وقال: إن له فيه نصيبا". 3 ـ مقولة نجم الدين الطوفي: ثالثا: يعتمد هؤلاء كذلك على مقولة اشتهرت للفقيه الأصولي الحنبلي نجم الدين سليمان الطوفي الحنبلي (ت716هـ) ادعوا عليه فيها أنه قال ما معناه: إذا تعارض النص القطعي في ثبوته ودلالته مع المصلحة قدمنا المصلحة، وعلقنا النص، وجمدناه، لأن الأصل أن الشرع جاء لتحقيق مصالح الناس، فلا يتصور أن يعود عليها بالنقض والإبطال. يقول الطوفي في شرحه لحديث: " لا ضرر ولا ضرار" من كتاب (الأربعين النووية) الشهير: (من المحال أن يراعي الله عز وجل مصلحة خلقه في مبدئهم ومعادهم ومعاشهم، ثم يهمل مصلحتهم في الأحكام الشرعية، إذ هي أهم، وكانت بالمراعاة أولى، ولأنها أيضا من مصلحة معاشهم؛ إذ بها صيانة أموالهم ودمائهم وأعراضهم، ولا معاش بدونها. فوجب القول أنه رعاها لهم، وإذا** ثبت رعايته إياها لم يجز إهمالها بوجه من الوجوه، فإن وافقها النص والإجماع وغيرهما من أدلة الشرع فلا كلام، وإن خالفها دليل شرعي وفق بينه وبينها بما ذكرناه، من تخصيصه بها، وتقديمها بطريق البيان.) ويقول في موضع آخر من شرحه: (ولا يقال أن الشرع أعلم بمصالحهم – مصالح العباد- فلتؤخذ من أدلته؛ لأنا نقول: قد قررنا أن رعاية المصلحة من أدلة الشرع، وهي أقواها وأخصـها، فلنقدمها في تحصيل المصالح، ثم إن هذا إنما يقال في العبادات، التي تخفى مصالحها عن مجاري العقول والعادات، أما مصلحة سياسة المكلفين في حقوقهم، فهي معلومة لهم بحكم العادة والعقل، فإذا رأينا دليل الشرع متقاعدا عن إفادتها، علمنا أنه أحالنا في تحصيلها على رعايتها). والواقع أن الطوفي رحمه الله. قد ظلمه العلمانيون، وظلمه الشرعيون. فالعلمانيون جعلوه من أئمتهم الذين يرجعون إليهم بعزل الدين عن حياة المجتمع، ويقدمون العقل على الشرع باستمرار، والرجل بريء من ذلك. والحق أنهم خطفوا جزءا من كلامه، وطاروا به فرحا وأشرا، ولم يصبروا على قراءة كلامه كله، أو قل: لم يريدوا أن يقرؤوه، لأن فيه حجة عليهم. ولو قرؤوه كله، لوجدوا غير ما ادَّعوا على الشيخ. والشرعيون أيضا لم يستوعبوا كلام الشيخ، وأخذوه بالجزء الأول من مقولته، ولم يستوعبوا كل ما قال، ونقل بعضهم عن بعض دون الرجوع إلى الأصل، فأوسعوا الرجل نقدا وتجريحا. وهو لا يستحق كل هذا. قد يلام على بعض إطلاقاته في كلامه الأول، ولكن لا يستحق ما وجه إليه من سهام جارحة. المراد بالنص في كلام الطوفي: ظاهر كلام الطوفي – كما يبدو في بعض فقراته من تقديم المصلحة على النص – مردود عليه، وهو مما انفرد به، وأنكره عليه عامة العلماء، وقد كنت كتبت من قبل معلقا على مقولة الطوفي حول المصلحة: إنه لم يحدد المراد بالنص الذي تخصصه المصلحة هل هومطلق النص من الكتاب أو السنة وإن كان ظنيا، أو المراد النص القطعي في ثبوته ودلالته؟ والأول هو اللائق بأن يصدر من عالم أصولي، والثاني لا دليل عليه من كلامه. بل في كلامه ما يفيد العكس، فقد استثنى المقدَّرات والعبادات مما قاله. وما ذاك إلا لأن التقديرات قد حددها الشارع بوضوح فلا تقبل احتمالا آخر، مثل تحديد أنصبة الورثة، ومقادير الواجب في الزكاة، ومدة العدة للمرأة المطلقة، والمتوفى عنها زوجها، وعـــدد الجلدات في الحدود ونحوها. كما أن العبادات المحضة يجب أن تؤخذ بالتسليم . هذا ما قررته قديما عن طريق الاستنتاج. وعندما عدت إلى مقولة الطوفي، وقرأت كلامه فيها بإمعان، تبين لي بيقين أنه حين يذكر (النص) في كلامه لا يعني به إلا (النص الظني) في سنده وثبوته، أو في متنه ودلالته. وهذا واضح لمن قرأ كلامه كله، ولم يقتصر على بعضه، ولم تضلله إطلاقاته وإيهاماته، وهو ما يؤخذ عليه فيما كتب. يقول الطوفي: (وأما النص فهو إما متواتر أو آحاد، وعلى التقديرين، فهو إما صريح في الحكم أو محتمل، فهي أربعة أقسام: فإن كان متواترا صريحا، فهو قاطع من جهة متنه ودلالته، لكن قد يكون محتملا من جهة عموم أو إطلاق، وذلك يقدح في كونه قاطعا مطلقا. فإن فرض عدم احتماله من جهة العموم والإطلاق ونحوه، وحصلت فيه القطيعة من كل جهة، بحيث لا يتطرق إليه احتمال بوجه منعنا أن مثل هذا يخالف المصلحة، فيعود إلى الوفاق. وإن كان آحادا محتملا فلا قطع، وكذا إن كان متواترا محتملا أو آحادا صريحا لا احتمال في دلالته بوجه لفوات قطيعته من أحد طرفيه: إما متنه أو سنده) .أ.هـ. فهو هنا-بكل وضوح-يمنع صراحة أن يخالف النص القطعي في سنده وفي دلالته المصلحة. وهذا أبلغ رد على من نقلوا عنه خلاف ذلك. ومما لا نزاع فيه بين أهل العلم عامة، أن المصلحة اليقينية (القطعية) لا يمكن أن تناقض النص القطعي أويناقضها بحال من الأحوال. وهو ما أكده علماء الأمة قديما وحديثا. وإذا توهم هذا التناقض، فلا بد من أحد أمرين: إما أن تكون المصلحة مظنونة أو موهومة، مثل مصلحة إباحة الربا لطمأنة الأجانب، أو الخمر لاجتذاب السياحة، أوالزنى للترفيه عن العزاب، أو إيقاف الحدود، مراعاة لأفكار العصر، أو غير ذلك مما يموه به مموهون من عبيد الفكر الغربي. وإما أن يكون النص الذي يتحدثون عنه غير قطعي، وهو ما وقع فيه كثير من الباحثين، **ولا سيما من غير المتخصصين والمتضلعين في علوم الشريعة وأسرارها، من أساتذة الحقوق والاقتصاد والآداب وأمثالهم، فحسبوا بعض النصوص قطعية، وليست كذلك. تعليق الدكتور متولي على الشيخ أبي زهرة: ومن أمثلة ذلك: أن العلامة الشيخ محمد أبا زهرة، ذكر في كتابه عن الإمام أحمد بن حنبل عندما تحدث عن رأي نجم الدين الطوفي (ت716هـ) في تقديم المصلحة على النص إذا تعارضا، فقال أبوزهرة: "إنه لا يمكن أن يكون ثمة تعارض بين مصلحة يقينية ونص قطعي" . وعلق الدكتور عبد الحميد متولي أستاذ القانون الدستوري المعروف في كتابه (مناهج التفسير في الفقه الإسلامي) على كلمة الشيخ أبي زهرة بقوله: "الواقع أن هذا القول – فيما نعتقد- لا يتفق مع الواقع، ومع ما كان يراه بعض كبار الصحابة، وعلى رأسهم عمر بن الخطاب، بل ولا مع ما كان يراه الرسول ذاته. فالرسول نهى عن قطع يد السارق في زمن الحرب خشية أن ينتقل السارق إلى صفوف الأعداء هربا من القصاص، الأمر الذي يدل على أن الرسول رأى أن النص القرآني المعروف (الذي يقضى بقطع يد السارق) لم يكن يتفق تطبيقه في تلك الحالة (حالة الحرب) مع المصلحة. وعمر بن الخطاب لم يطبق نص الآية القرآنية المعروفة التي وردت بشأن إعطاء الصدقات إلى (المؤلفة قلوبهم)، لأنه وجد المسلمين لم يعودوا بحاجة إلى المعضِّدين والمؤيدين من تلك الطائفة، ومن ذلك نرى أنه لم يطبق النص لزوال حكمته
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
malsdiik




عدد المساهمات : 8
نقاط : 16
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 27/04/2010

دراسة في فقه مقاصد الشريعة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: دراسة في فقه مقاصد الشريعة    دراسة في فقه مقاصد الشريعة  Emptyالثلاثاء ديسمبر 28, 2010 11:34 am

أوبعبارة أخرى: وجد تطبيق النص أصبح في عصره لا يتفق مع المصلحة" أ.هـ. والواقع أن تعليق الدكتور متولي، على شيخنا أبي زهرة، في غاية الخلل والاضطراب، وسوء الفهم. فهو يجعل بيان الرسول صلى الله عليه وسلم للنص القرآني من باب تعارض المصلحة مع النص، ونسي أن مهمة الرسول –بنص القرآن ذاته- أن يبين للناس ما نزل إليهم، وأن من هذا البيان: تخصيص العام، وتقييد المطلق، بإجماع العلماء كافة. وقد بين الرسول بالنسبة للنص القرآني في حد السرقة: النصاب الذي يوجب القطع، فلا قطع في أقل من ربع دينار، أو في ما دون ثمن المجن، ولا قطع في ما يؤخذ من غير حرز، كالذي يؤخذ من الحقول للأكل، ولا في من أخذ من مال ابنه أو ابنته، لقوله: "أنت ومالك لأبيك" ويقاس عليه كل من سرق من مال له فيه حق. والقطع إنما يكون لليد اليمنى، ومن الرسغ، لا من المرفق، ولا من العضد. إلى آخر ما جاءت به السنة مبينة للقرآن، وكان من ذلك، نهيه صلى الله عليه وسلم أن تقطع الأيدي في الغزو . فكيف اعتبر الباحث هذا الأمر وحده معارضة للنص باسم المصلحة؟ وهل يعتبر الدكتور متولي النص من القرآن وحده؟ أو يشمله ويشمل النص من الحديث النبوي أيضا؟ فما ذكره في هذا المقام لا يدخل في باب التعارض أبدا، لا بين نص ومصلحة، ولا بين نصين، بل هومن باب بيان السنة للقرآن . أما ما ذكره الدكتور متولي عن موقف عمر من (المؤلفة قلوبهم) وأنه عطل النص لتعارضه مع المصلحة في عصره، فهذه دعوى عريضة على ابن الخطاب رضي الله عنه، فهولم يعطل نصا، وما كان له أن يفعل، ولا يملك هو ولا غيره ذلك، وما قاله الدكتور هنا ترديد لقول أناس سبقوه، لم يعطوا الموضوع حقه من الدرس والتأمل. وقد رددنا على هذه الدعوى عند مناقشتنا لمستندات مدرسة المعطلين للنصوص من قبل. 4 ـ حيث توجد المصلحة فثم شرع الله: رابعا: ومن مستندات مدرسة تعطيل النصوص، التشبث بكلمة يدعون نقلها عن الإمام ابن القيم، ويرددونها في كل مناسبة وهي: "حيث توجد المصلحة فثم شرع الله!". والحق أنهم لم ينقلوا كلمة ابن القيم بنصها ولفظها، فهولم يتكلم عن المصلحة، وإنما تكلم عن العدل. كما أنهم يقطعون هذه الكلمة عن سياقها الذي وردت فيه. فقد قالها ابن القيم في كتابه (الطرق الحكمية) وغيره ردا على الذين يحصرون "البينة" الشرعية في شهادة الشهود وحدها، ويرفضون الأخذ بالقرائن، وإن بلغت ما بلغت من الوضوح والدلالة على وجه الحق في القضية. فقد قال رحمه الله: "إن الله سبحانه أرسل رسله، وأنزل كتبه، ليقوم الناس بالقسط، وهوالعدل الذي قامت به الأرض والسماوات، فإذا ظهرت أمارات العدل، وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه" ونحو ذلك قاله في (إعلام الموقعين). أما إطلاق هذه الكلمة عن ابن القيم أو شيخه ابن تيمية، فلم يثبت عنهما، ولا يتصور منهما، وهما أشد الناس تمسكا بالنصوص، ودعوة إلى الاتباع، وإنما تقبل هذه الكلمة "حيث توجد المصلحة فثم شرع الله" فيما لا نص فيه، أوفيما فيه نص يحتمل تفسيرات عدة، ترجح أحدها المصلحة. وفيما عدا ذلك فالواجب أن يقال: "حيث يوجد شرع الله فثم مصلحة العباد". المدرسة الثالثة: المدرسة الوسطية الربط بين النصوص الجزئية والمقاصد الكلية المدرسة الوسطية هي التي تسير على النهج الوسط للأمة الوسط، فلا تغلو مع الغالين، ولا تفرّط مع المفرطين، إنها مدرسة (الصراط المستقيم) التي ترفض التطرف والتسيب كليهما، وتؤمن بالتوازن والاعتدال، وتعمل بموجب قول الله تعالىSadألا تطغوا في الميزان. وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) الرحمن:8. فهذه هي الوسطية القرآنية: لا طغيان في الميزان، ولا إخسار في الميزان. وتتجلَّى وسطية هذه المدرسة في موضوعنا، بأنها تربط بين النصوص الجزئية والمقاصد الكلية، بل تفهم الجزئيات في ضوء الكليات، ولا تغلو- في إتباع ظواهر النصوص، والتمسك بحرفية الألفاظ- غلوالمدرسة اللفظية، التي سميناها: (مدرسة الظاهرية الجدد) وتحدثنا عنها وعن فقهها فيما سبق. كما لا تفرّط، فتعمد إلى إهمال النصوص، والإعراض عنها، تفربط المدرسة التغريبية التي سميناها: (مدرسة المعطلة الجدد). تؤمن المدرسة الوسطية: بأن أحكام الشريعة معللة، وأنها كلها على وفق الحكمة، وأن عللها تقوم على مصلحة الخلق، فإن الله تعالى غني عن العالمين، وكل ما سواه مفتقر إليه، كما قال الله تعالى: (يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله، والله هوالغني الحميد) فاطر: 15. فهو سبحانه إذا أمر أو نهى، أو حلل أو حرم، فإنما ذلك لمنفعة عباده، بلا ريب، علم ذلك من علم، وجهل ذلك من جهل. ذلك أن من صفات الله تعالى (الحكمة) ومن أسمائه سبحانه (الحكيم) والحكيم لا يشرع شيئا عبثا أواعتباطاً. كما لا يخلق شيئا باطلاً أولهوا. بل كل مِن خَلقِه وأَمرِه أو قدره شرعه: مرتبط بحكمته البالغة. ولهذا وصف القرآن أولى الألباب بأنهم يتفكرون في خلق السموات والأرض قائلين: (ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك) آل عمران:119. وقال تعالى منكرا: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا..) المؤمنون: 115. وقال تعالى: (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما باطلا، ذلك ظن الذين كفروا) ص: 27. وقال سبحانه (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين. ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون) الدخان: 38، 39. فهذا الخالق العظيم ينزه نفسه عن الباطل والعبث واللعب، وأثبت أنه خلق كل شيء بالحق، كما أنه أنزل كتابه بالحق، وأرسل رسوله بالحق: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) الإسراء: 105، (إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا) البقرة: 119. فهو لا يخلق إلا بالحق، ولا يشرع إلا بالحق. وبعبارة أخرى: لا يخلق إلا لحكمة، ولا يشرع إلا لحكمة. إنه العليم الحكيم. ومن صفاته تعالى كذلك: الكرم والبر والرحمة ومن أسمائه: الكريم البر الرحيم. ولهذا لا يخلق ولا يشرع إلا ما فيه خير عباده ومصلحة خلقه، برا بهم، وإحسانا إليهم، فقد كتب على نفسه الرحمة. ومن هنا نجد الشارع الحكيم- في كتابه وسنة نبيه- يتبع كثيرا من الأحكام ببيان عِلَّتها وحكمها والمصالح المترتبة عليها، وذلك في مئات المواضع، وخاصة في المعاملات بين الناس بعضهم وبعض. ولهذا أجمع العلماء- فيما عدا فئة قليلة- على تعليل أحكام الشريعة وربطها بالحكم والمصالح، بل استدل الذين يقولون: (شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد نسخ) بقولهم: (إن شرع الله تعالى الحُكمَ في حق أمة: يدل على تعلق المصلحة به، فعن حكيم لا تخلو حكمته عن مصلحة، ويدل على اعتبار الشرع له، فلا يجوز العدول عنه حتى يدل على نسخه دليل . ولهذا قال المحققون: إن الشريعة إنما شرعت لمصالح العباد في العاجل والآجل معا. سواء أكانت هذه المصالح ضرورية أم حاجية أم تحسينية، وهي القواعد الثلاث التي قامت عليها الشريعة. وقال الإمام الشاطبي: (إن هذه القواعد الثلاث لا يرتاب في ثبوتها شرعا أحد ممن ينتمي إلى الاجتهاد من أهل الشرع وأن اعتبارها مقصود للشارع). ودليل ذلك استقراء الشريعة والنظر في أدلتها الكلية والجزئية، وما انطوت عليه من هذه الأمور العامة على حد الاستقراء المعنوي، الذي لا يثبت بدليل خاص، بل بأدلة منضاف بعضها إلى بعض، مختلفة الأغراض، بحيث ينتظم من مجموعها أمر واحد تجتمع عليه تلك الأدلة، على حد ما ثبت عند العامة جود حاتم، وشجاعة على رضي الله عنه، وما أشبه ذلك؛ فلم يعتمد الناس في إثبات قصد الشارع في هذه القواعد على دليل مخصوص، ولا على وجه مخصوص، بل حصل لهم ذلك من الظواهر والعمومات، والمطلقات والمقيدات، والجزئيات الخاصة في أعيان مختلفة، ووقائع مختلفة، في كل باب من أبواب الفقه، وكل نوع من أنواعه، حتى ألْفَوْا أدلة الشريعة كلها دائرة على الحفظ على تلك القواعد، هذا مع ما ينضاف إلى ذلك من قرائن أحوال منقولة وغير منقولة. ا هـ. وما ذكره العلامة الشاطبي في المغرب، وفصل فيه القول في جزء كامل من كتابه الفريد (الموافقات)، قرره قبله علماء محققون في المشرق، منهم الإمام ابن القيم، الذي أكد أن الشريعة أساسها ومبناها على مصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، رحمة كلها، حكمة كلها، مصالح كلها . ومثل ذلك ما قرره شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية. وقبل هؤلاء قرر حجة الإسلام الغزالي: أن مقصود الشرع من الخلق: أن يحفظ عليهم دينهم وأنفسهم وعقولهم ونسلهم وأموالهم، وأضاف الإمام شهاب الدين القرافي: وأعراضهم. وهذا ما تؤمن به المدرسة الوسطية التي لا تغفل المقاصد، ولا تهمل النصوص، بل تنظر إلى النصوص الجزئية في إطار المقاصد الكلية، وترى أن الله تعالى لم يشرع الأحكام إلا لمصلحة عباده، وأنه لا يوجد حكم شرعي مقطوع به يخالف مصلحة للناس مقطوعا بها، لأن الذي أنزل هذه الشريعة وأوجب على الناس الاحتكام إليها، هو الذي خلق الناس وأمدهم بنعمه، وعلم ما يصلحهم ويرقى بهم من الشرائع فألزمهم به، (ألا يعلم من خَلَق، وهواللطيف الخبير) الملك:14 فهو أعلم بهم من أنفسهم، وأبر بهم من أنفسهم، وأرحم بهم من آبائهم وأمهاتهم. وإذا كان خالق الإنسان هومنزل الشريعة، فلا يتصور أن يتناقض ما شرعه مع مصلحة عباده، إلا أن يكون غير عالم بذلك حين شرعه، وهذا لا يقول به مسلم. أويكون عَلِمه، ولكنه أراد أن يعنتهم ويلزمهم العسر والحرج، وهذا منفي بالنصوص القاطعة، قال تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) البقرة: 185، (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون) المائدة: 6، (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا) النساء: 28، (ولوشاء الله لأعنتكم، إن الله عزيز حكيم) البقرة: 220. (هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج) الحج: 78. ولهذا كان تصور مصلحة حقيقية تعارضها النصوص القطعية، تصورا نظريا أو افتراضيا محضا، لا وجود له في أرض الواقع. وينبغي أن نحرر محل النزاع هنا، وهو التعارض بين قطعي النصوص، وقطعي المصالح، وهو ما نقول بامتناعه. أما التعارض بين مصلحة حقيقية معتبرة وبين نص محتمل للتأويل، فهذا قد وقع ويقع، وهنا يجب تأويل النص ليتفق مع المصلحة المعتبرة شرعا. وهذا ما صنعه سيدنا عمر بن الخطاب ومن وافقه من الصحابة في قضية قسمة الأرض المفتوحة على الغانمين، وتوقفه في ذلك، وانتهى إلى تخصيص (ما غنمتم) في الآية بالمنقولات ونحوها، مما يغنم ويحاز حقيقة. وقد سبق أن أشرنا إلى ذلك. وهوما صنعه سيدنا عثمان حيث رأى التقاط ضوال الإبل، وحفظها في بيت المال، حتى لا تضيع على أصحابها، ولم تكن تلتقط على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وهوما صنعه بعض فقهاء التابعين في حديث امتناعه صلى الله عليه وسلم عن التسعير حيث شكا إليه أصحابه الغلاء، وقوله: "إن الله هو المسعر القابض الباسط" إذ حملوا ذلك على حالة الغلاء الطبيعي –الناتج عن العرض والطلب- وليس الغلاء الناتج عن احتكار التجار، والعمل على إغلاء الأسعار. وكذلك التعارض بين نص قطعي ومصلحة موهومة لا يدخل في ما نحن فيه. والواقع أن هذا هو ما يموه به مموهون اليوم فمن زَعم أن هناك مصالح للناس يعارضها الشرع. فمن نظر إلى هذه المصالح المدّعاة بموضوعية وإنصاف لم يجدها مصلحة حقيقية على الإطلاق. فلا توجد مصلحة حقيقية في (إيقاف حدود الله) التي أوجبتها النصوص القطعية. ولا توجد مصلحة حقيقية (في إباحة الخمر) التي حرمتها النصوص القطعية. ولا توجد مصلحة حقيقية (في إباحة الربا) الذي حرمته النصوص القطعية. ولا توجد مصلحة حقيقية (في إباحة الخلاعة) التي حرمتها النصوص القطعية. ولا توجد مصلحة حقيقية (في تعطيل الزكاة) التي فرضتها النصوص القطعية. ولا توجد مصلحة حقيقية (في منع تعدد الزوجات) الذي أباحته النصوص القطعية. ولا توجد مصلحة حقيقية (في إباحة البغاء) الذي حرمته النصوص القطيعة. ولا توجد مصلحة حقيقية (في التسوية بين الابن والبنت في الميراث) الذي منعته النصوص القطيعة. وهكذا كل ما ينادي به (عبيد الفكر الغربي) اليوم مما تعارضه الشريعة بيقين، ليس فيه عند التحقيق أية مصلحة معتبرة تعود على الناس بالخير في معاشهم أومعادهم. إنما هي أوهام تخيلوها مصالح، بحكم تأثرهم بالغرب، وعبوديتهم الفكرية له. ولولا أن الغرب نهج ذلك النهج، ما قالوا ما قالوه، ولا خطر ببالهم أن يقولوه. ولوغَيَّر الغرب موقفه من بعض هذه القضايا لرأيت هؤلاء أسرع ما يكونون إلى تغيير موقفهم؛ فإنما يتبعون سننه- فكرا وعملا- شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه، كما أنبأ المعصوم صلى الله عليه وسلم. سمات المدرسة الوسطية وخصائصها تتميز المدرسة الوسطية بجملة من السمات والخصائص الفكرية والخلقية، تحدد ملامحها، وتميز شخصيتها عن المدرستين السابقتين: المدرسة الحَرْفية أوالظاهرية، التي تنظر إلى النصوص الجزئية بمعزل عن المقاصد، والمدرسة المقابلة لها، التي تغفل النصوص الجزئية من القرآن والسنة، ولا تلقي لها بالا، بزعم أنها تهتم فقط بروح الدين، ومقاصد الشريعة. فهذه المدرسة وسط بين هاتين المدرستين، ولهذا تميزت بالخصائص التالية: 1- الإيمان بسموالشريعة وكمالها: أولى هذه الخصائص والسمات: أنها تؤمن بكمال الشريعة وسموها لأنها منزلة من عليم حكيم، فهي تمثل علمه وحكمته جل ثناؤه؛ إذ لا يتصور أن يشرع العليم الحكيم لعباده حكما يضرهم في معيشتهم، أو يعسّر عليهم حياتهم، أو يوجب عليهم العنت والحرج في دينهم، إلا أن يشرع ذلك وهوغير عالم بما فيه عنت وحرج وضرر، أويكون عالما، ولكنه أراد أن يعنت خلقه ويحرجهم. وكلاهما مستحيل عليه سبحانه وتعالى. أما عدم العلم، فهو منفي عنه جل وعلا، كما قال تعالى: "إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء " آل عمران: 5. وهو الذي خلق الإنسان ويعلم ما يصلحه وما يفسده، وما يرقى به وما يهبط به، كما قال تعالى:" ألا يعلم من خلق وهواللطيف الخبير" الملك: 14. وأما أنه أراد أن يعنت عباده ويريد بهم العسر والحرج، فهذا قد نفاه الله نفيا قاطعا في كتابه العزيز، حيث قال: " ولوشاء الله لأعنتكم " البقرة: 220، وقال: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " البقرة : 185، وقال: " ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج" المائدة: 6، وقال: " وما جعل عليكم في الدين من حرج " الحج: 78، وقال: " يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا " النساء: 28. كما أن هذا يتنافى مع الرحمة التي وصف بها نفسه " إن الله بالناس لرؤوف رحيم " البقرة: 143، ووصف بها رسالة محمد " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " الأنبياء: 107. ولهذا تؤمن المدرسة الوسطية بأن الشريعة الإسلامية تتضمن كل ما فيه رحمة بالعباد، وتيسير عليهم، وتخفيف عنهم. ومن ظن أن الشريعة بخلاف ذلك، فقد افترى عليها، وظن بمُنزِلها ظن السَّوْء، أو- على الأقل- أخطأه الحق والصواب في دعواه. فالناظر المتعمق يجد أن من الحديث ما بني على رعاية ظروف زمنية خاصة، ليحقق مصلحة معتبرة، أو يدرأ مفسدة معينة، أو يعالج مشكلة قائمة في ذلك الوقت، أو يكون مبنيا على عرف قائم في ذلك الوقت، ولكنه لم يعد قائما اليوم. ومعنى هذا أن الحكم الذي يحمله الحديث قد يبدو عاما ودائما، ولكنه عند التأمل مبني على علة، يزول بزوالها، كما يبقى ببقائها، أو على عرف ينتفي بانتفائه. وهذا يحتاج إلى فقه عميق، ونظر دقيق، ودراسة مستوعبة للنصوص، وإدراك بصير لمقاصد الشريعة، وحقيقة الدين، مع شجاعة أدبية، وقوة نفسية للصدع بالحق- وإن خالف ما ألفه الناس وتوارثوه- وهذا ليس بالشيء الهين؛ فقد كلف هذا شيخ الإسلام ابن تيمية معاداة الكثيرين من علماء زمنه الذين كادوا له حتى أدخل السجن أكثر من مرة، ومات فيه رضي الله عنه. لابد لفهم النص فهما سليما دقيقا، من معرفة الملابسات التي سيق فيها الحديث، وجاء بياناً لها، وعلاجا لظروفها، حتى يتحدد المراد من الحديث بدقة، ولا يتعرض لشطحات الظنون، أوالجري وراء ظاهر غير مقصود. ومما لا يخفى أن علماءنا قد ذكروا أن مما يعين على حسن فهم القرآن معرفة أسباب نزوله، حتى لا يقع فيما وقع فيه بعض الغلاة من الخوارج وغيرهم , ممن أخذوا الآيات التي نزلت في المشركين، وطبقوها على المسلمين، ولهذا كان ابن عمر يراهم شرار الخلق بما حرّفوا كتاب الله عما أنزل عليه. فإذا كانت أسباب نزول القرآن مطلوبة لمن يفهمه أويفسره، كانت أسباب ورود الحديث أشد طلبا ؛ ذلك أن القرآن بطبيعته عام وخالـد، وليس من شأنه أن يعرض للجزئيات والتفصيلات والآنيات، إلا لتؤخذ منها المبادئ والعبر. أما السنة، فهي تعالج كثيرا من المشكلات الموضعية والجزئية والآنية، وفيها من الخصوص والتفاصيل ما ليس في القرآن. فلابد من التفرقة بين ما هو خاص وما هو عام، وما هو مؤقت وما هو خالد، وما هو جزئي وما هو كلي، فلكل منها حكمه، والنظر إلى السياق والملابسات والأسباب تساعد على سداد الفهم واستقامته، لمن وفقه الله . إن الفقه الصحيح الذي أراد الله بصاحبه خيرا، والذي ينطبق عليه الحديث الصحيح: " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين " ؛ هوالذي ينظر إلى النصوص من القرآن والسنة، موصولة بمقاصد الشرع. لذا كان على الفقيه الموفق ألا يتشبث بحرفية النص وحدها، مغفلا ما وراءها من حكم ومقاصد وملابسات لها تأثيرها في معرفة الحكم، يدركها الغوّاصون المتعمقون الذين لا يكتفون بالوقوف عند السطح، بل يجتهدون إلى أن يصلوا- ما استطاعوا- إلى الأعماق. وبدون هذا ستزل الأقدام، وتضل الأفهام، ويذهب الناس يمينا وشمالا، بعيدا عما قصده الشارع الحكيم، وإن كانوا يحسبون أنهم متمسكون بنصوص الدين، ذابُّون عن كتابه الكريم، وعن سنة نبيه الأمين، وهم بعيدون كثيرا عن روح القرآن، وعن جوهر السنة، وعن حقيقة الإسلام. فإن كانوا أهلا للاجتهاد فلهم أجر المجتهد إذا أخطأ، وإن أقحموا أنفسهم فيما لا يحسنون فلا أجر لهم، ولا عذر لهم عند الله. ولقد قال صلى الله عليه وسلم في جماعة أفتوا رجلا أصابته جنابة، وكان يعاني من جراحة في جسده: أن يغتسل على ما به من علة ! فأخذ بفتواهم، واغتسل، فتفاقم عليه الجرح حتى مات، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " قتلوه قتلهم الله !هلا سألوا إذا لم يعلموا؟ ! فإنما شفاء العي السؤال. إنما كان يكفيه أن يعصب على جرحه ويتيمم " . فاعتبر فتواهم المتعجلة – التي لم تبن على علم – قتلاً للرجل، وفي هذا نذير لمن يُفتون بغير علم، ويقولون على الله ما لا يعلمون. وسأضرب هنا بعض الأمثلة التي ينبغي فيها الربط بين النص الجزئي، والمقصد الكلي للحديث الشريف، حتى نصل إلى الحكم الشرعي السليم. وهذه أمثلة متنوعة من أبواب شتى من الفقه: أ – في العبادات: (اعتبار نصاب الزكاة في النقود واحدا لا نصابين). ب – في الأحوال الشخصية أو شئون الأسرة: (سفر المرأة بدون محرم– وطروق الرجل أهله ليلا). ج – في السياسة الشرعية حديث: " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين." وحديث : " الأئمة من قريش ". • وجود نصابين للنقود في الزكاة: ومن الأمثلة البارزة على أن النص قد يبنى على عرف ثم يتغير، أويزول بالكلية: ما ثبت من تقديره صلى الله عليه وسلم نصابين لزكاة النقود: أحدهما: بالفضة، وقدره مائتا درهم (تقدر بـ 595 جراما). والثاني: بالذهب، وقدره عشرون مثقالا أودينارا (تقدر بـ 85 جراما) وكان صرف الدينار يساوي في ذلك الوقت عشرة دراهم، وقد جاءت الأحاديث النبوية مبينة لذلك. ربما خطر لبعض الناس: أن هذا نص جاء في عبادة من العبادات الكبرى، وهي الزكاة، فلا يجوز الاجتهاد فيه، أوالتفكير في تغييره! ولكن من المعروف أن الزكاة ليست عبادة محضة كالصلاة والصيام؛ بل هي عبادة وحق مالي، ولهذا تذكر في كتب الخراج والأموال، وفى كتب السياسة الشرعية، وهي ولا شك جزء من النظام المالي والاجتماعي في الإسلام. ولهذا دخلها التعليل، ودخلها القياس في أحكام شتى، فلا مانع من النظر في بعض أحكامها إذا كانت مبنية على مصلحة أوعرف لم يبقيا إلى اليوم. ولقد بينت في كتابي (فقه الزكاة) أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد إلى وضع نصابين متفاوتين للزكاة، بل هونصاب واحد، من ملكه اعتبر غنيا وجبت عليه الزكاة، قدر بعملتين جرى العرف بالتعامل بهما في عصر النبوة- إذ لم يكن للعرب عملة خاصة يتعاملون بها، بل كان اعتمادهم على (الدراهم) الفضية التي ترد إليهم من دولة الفرس في (إيران) وهذه معظم نقودهم، أوعلى (الدنانير) الذهبية التي ترد إليهم من (دولة الروم البيزنطية) وهي قليلة- فقدر الرسول - صلى الله عليه وسلم - النصاب الذي يمثل الحد الأدنى للغنى الموجب للزكاة، بما ذكرنا من العملتين السائدتين في المجتمع العربي عند البعثة، فجاء النص بناء على هذا العرف القائم، وحدد النصاب بمبلغين متعادلين تماما. فإذا تغير الحال في عصرنا، وانخفض سعر الفضة بالنسبة لسعر الذهب انخفاضا هائلا، لم يجز لنا أن نقدر النصاب بمبلغين متفاوتين غاية التفاوت، فنقول مثلا: إن نصاب النقود ما يعادل قيمة (85جراما) من الذهب، أوما يعادل (595جراما) من الفضة، وقيمة نصاب الذهب حينئذ تزيد على قيمة نصاب الفضة حوالي عشرة أضعاف. ولا يعقل أن نقول لشخص معه مبلغ معين من الدنانير الكويتية أوالأردنية مثلا أوالجنيهات المصرية أوالريالات السعودية أوالقطرية: أنت غني إذا قدرنا نصابك بالفضة، ونقول لمن يملك أضعاف ذلك أنت فقير إذا قدرنا نصابك بالذهب ! والمخرج من ذلك هوتحديد نصاب واحد في عصرنا للنقود، به يعرف الحد الأدنى للغنى الشرعي الموجب للزكاة ، وهذا ما ذهب إليه شيوخنا الكبار: الشيخ محمد أبوزهرة، والشيخ عبد الوهاب خلاف، والشيخ عبد الرحمن حسن – رحمهم الله – في محاضراتهم عن الزكاة في دمشق سنة 1952م، من التقدير بالذهب فقط. وهذا ما اخترته وأيدته بالأدلة في بحثي عن الزكاة وليس هنا مخالفة لنص كما قد يتوهم البعض، بل النص هنا مبني على عرف كان قائما، فلا غرو أن يزول بزواله. • سفر المرأة مع محرم: ومن ذلك ما جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وغيره مرفوعا: " لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم " . فالعلة وراء هذا النهي هي الخوف على المرأة من سفرها وحدها بلا زوج أومحرم، في زمن كان السفر فيه على الجمال أو البغال أو الحمير، وتجتاز فيه غالبا صحاري ومفاوز تكاد تكون خالية من العمران والأحياء، فإذا لم يصب المرأة شر في نفسها أصابها في سمعتها. ولكن إذا تغير الحال – كما في عصرنا – وأصبح السفر في طائرة تقل مائة راكب أو أكثر، أوفي قطار يحمل مئات المسافرين، ولم يعد هناك مجال للخوف على المرأة إذا سافرت وحدها، فلا حرج عليها شرعا في ذلك، ولم يعد هذا مخالفة للحديث، بل قد يؤيد هذا حديث عدي بن حاتم مرفوعا عند البخاري: " يوشك أن تخرج الظعينة من الحيرة تؤم البيت لا زوج معها " . وقد سيق الحديث في معرض المدح بظهور الإسلام، وارتفاع مناره في العالمين، وانتشار الأمان في الأرض، فيدل على الجواز، وهو ما استدل به ابن حزم على ذلك. ولا غرو أن وجدنا بعض الأئمة يجيزون للمرأة أن تحج بلا محرم ولا زوج، إذا كانت مع نسوة ثقات، أو في رفقة مأمونة، وهكذا حجّت عائشة وطائفة من أمهات المؤمنين في عهد عمر، ولم يكن معهن أحد من المحارم، بل صحبهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم كما في صحيح البخاري . بل قال بعضهم: تكفي امرأة واحدة ثقة . وقال بعضهم: تسافر وحدها إذا كان الطريق آمنا، وصححه صاحب (المهذّب) من الشافعية . وهذا في سفر الحج والعمرة، وطرده بعض الشافعية في الأسفار كلها . • طروق الرجل المسافر أهله ليل: ومما ورد في شأن السفر أيضا نهيه، عليه الصلاة السلام، الرجل المسافر أن يطرق أهله ليلا ًإذا طالت غيبته عنهم، وكان صلى الله عليه وسلم لا يطرق أهله ليلا، إنما يدخل عليهم غدوة أوعشية. وقد جاءت بعض الروايات تحدد العلة بأمرين: 1 - اتقاء أن يظهر الرجل في صورة من يتهم أهله أويتخوّنهم ويلتمس عثراتهم، فهويريد أن يفاجئهم بعودته على غير توقع منهم، لعله يكشف شيئا مريبا مخبَّئا عنه، وهذا سوء ظن لا يرضاه الإسلام للمسلم في العلاقة الزوجية التي يرفعها الإسلام مكانا عليا. 2 – أن يكون لدى المرأة علم بقدوم زوجها، حتى تتجمل له، وتتهيأ بدنيا ونفسيا لاستقباله، وإليه الإشارة في الحديث " كي تستحد المغيبة، وتمتشط الشعثة " . ومن هنا نقول إن باستطاعة المسافر في عصرنا أن يحضر أي وقت تيسر له من ليل أونهار، إذا أخبر أهله بطريق الهاتف أوالبرق أوالبريد أوغيرها، وبخاصة أن المسافر في عصرنا ليس مختارا دائما في اختيار الوقت الذي يرجع فيه، لأن الطائرات والبواخر ونحوها هي التي تجبره على مواعيدها، وليس هوالذي يختارها، بخلاف راكب الناقة قديما، فإن مركبه ملكه، يتحرك به متى شاء، ويقيل أو يبيت متى شاء، ويعجل أو يؤجل عودته كيف شاء . • حديث " أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين “: ونضرب هنا مثالاً بحديث " أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين لا تتراءى نارهما " . فقد فهم منه البعض تحريم الإقامة في بلاد غير المسلمين، وأفتى بذلك مفتون في بلاد شتى، وضيّقوا بذلك على المسلمين الكثيرين الذين يعيشون في أوروبا وغيرها، مع تعدد الحاجة إلى ذلك في عصرنا: للتعلم، والتداوي، وللعمل، وللتجارة، وللسفارة، وللفرار من الاضطهاد، ونشر الدعوة، ولتعليم المسلمين الجدد وتثبيتهم،ولغير ذلك، وخصوصا بعد أن تقارب العالم حتى غدا كأنه (قرية كبرى) كما قال أحد الأدباء ! فالحديث – كما ذكر العلامة رشيد رضا – ورد في وجوب الهجرة من أرض المشركين إلى النبي صلى الله عليه وسلم لنصرته، رواه أهل السنن ـ أما أبو داود فرواه من حديث جرير بن عبد الله، وذكر أن جماعة لم يذكروا جريرا، أي رووه مرسلا، وهوالذي اقتصر عليه النسائي، وأخرجه الترمذي مرسلا، وقال: وهذا أصح، ونقل عن البخاري تصحيح المرسل، ولكنه لم يخرجه في صحيحه، ولا على شرطه. والاحتجاج بالمرسل فيه الخلاف المشهور في علم الأصول، ولفظ الحديث: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم، فاعتصم ناس منهم بالسجود، فأسرع فيهم القتل، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر لهم بنصف العقل- أي الدية- وقال: " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قالوا: يا رسول الله، لم؟ قال: لا تتراءى ناراهما". (أي لا يتجاوران ولا يتقاربان، بحيث ترى نار كل منهما نار الآخر، وهوكناية عن بعد ما بينهما). انتهى. فجعل لهم نصف الدية وهم مسلمون ؛ لأنهم أعانوا على أنفسهم، وأسقطوا نصف حقهم لإقامتهم بين المشركين المحاربين لله ولرسوله صلى الله عليه مسلم، وشدد في مثل هذه الإقامة التي يترتب عليها مثل ذلك من القعود عن نصر الله ورسوله، والله تعالى يقول في أمثال هؤلاء: " والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتي يهاجروا في سبيل الله، وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق " الأنفال: 92. فنفى تعالى ولاية المسلمين غير المهاجرين إذ كانت هناك هجرة واجبة ، فمعنى قوله عليه الصلاة والسلام " أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين " أي بريء من دمه إذا قتل، لأنه عرَّض نفسه لذلك بإقامته بين هؤلاء المحاربين لدولة الإسلام. ومعنى هذا: أنه إذا تغيرت الظروف التي قيل فيها النص، وانتفت العلة الملحوظة من ورائه، من مصلحة تُجلب، أومفسدة تُدفع، فالمفهوم أن ينتفي الحكم الذي ثبت من قبل بهذا النص، فالحكم يدور مع علّته وجودا وعدما. • الأئمة من قريش: ومن ذلك: حديث " الأئمة من قريش " وما في معناه، فمن الناس من ردّه، ولم يقبله بإطلاق، بغير منطق علمي، وبحث في الأسانيد ومدى قوتها وضعفها؛ إلا استبعاد ذلك. ومنهم من حاول أن يُضعَّف أسانيده، مع أن فيها ما هوصحيح، وما ورد في صحيحي البخاري ومسلم، واستند إلى ما جاء عن عمر: " إن أدركني أجلي وأبوعبيدة حي استخلفته، فإن أدركني أجلي بعده استخلفت معاذ بن جبل " ! ومعاذ أنصاري من الخزرج، وليس من قريش . ومنهم من مال إلى أن النص النبوي في غير التعبديات، لابد أن يبحث عن المقصود منه وعما يحل من علة هي سب الحكم، يبقى ببقائها، ويزول بعدمها. وهو ما فعله حكيم المؤرخين: ابن خلدون، فقد فسَّر الحديث في مقدمته بأنه صلى الله عليه وسلم، راعى ما كان لقريش في عصره من القوة والعصبية، التي يرى ابن خلدون أن عليها تقوم الخلافة أوالملك، قال: فإذا ثبت أن اشتراط القرشية إنما هو لدفع التنازع بما كان لهم من العصبية والغلب، علمنا أن ذلك إنما هومن الكفاية، فرددناه إليها، وطردنا العلة المشتملة على المقصود من القرشية، وهي وجود العصبية، فاشترطنا في القائم بأمور المسلمين أن يكون من قوم أولي عصبية على من معها لعصرها ليستتبعوا من سواهم، وتجتمع الكلمة على حسن الحماية .. إلخ. منهاج الصحابة والتابعين في النظر إلى علل النصوص وظروفها: وهذا المنهج في النظر إلى ملابسات النصوص، وخصوصا من الأحاديث، وإلى العلل التي سيقت لها قد سبق به الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان. فقد تركوا العمل بظاهر بعض الأحاديث، حين تبين لهم أنها كانت تعالج حالة معينة في زمن النبوة، ثم تبدلت تلك الحال عما كانت عليه. من ذلك ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تكتبوا عني شيئاً ومن كتب عني غير القرآن فليمحـه " . ومع هذا النهي رأينا جمهور الصحابة كتبوا عن النبي أو أجازوا الكتابة، كما أثبت ذلك العلامة السيد سليمان الندوي في إحدى محاضراته عن السيرة النبوية، وأثبت ذلك كثير من الدارسين لتاريخ تدوين السنة- مثل الدكتور عجاج الخطيب، والدكتور محمد مصطفى الأعظمي وغيرهما- وذلك لأنهم فهموا المقصود من وراء هذا النهي وهو توفير أقصى عناية ممكنة للقرآن الكريم , من ناحية، وشدة الاحتياط في التباس القرآن بغيره من أحاديث الرسول، وخصوصاً في أول الأمر، وبالنسبة لبعض الناس. فلما زال هذا المانع أو زالت هذه الخشية، لم يروا حرجاً في كتابة الأحاديث النبوية، ولم يعتبروا ذلك مخالفة للرسول علية الصلاة والسلام. وهوما استقر عليه الأمر، وأجمعت عليه الأمة، فدونت كتب الحديث: جوامع ومسانيد ومصنفات ومعاجم وأجزاء إلى غير ذلك، وزال ما كان من خلاف في أول الأمر حول جواز كتابة الحديث أم لا. ومن ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم خيبر بين الفاتحين، ولكن عمر لم يقسِّم سواد العراق، ورأى أن يبقيه في أيدي أربابه، ويفرض الخراج على الأرض، ليكون موردا دائما لأجيال المسلمين . وقال في ذلك ابن قدامة: " وقسمة النبي صلى الله عليه وسلم خيبر كانت في بدء الإسلام وشدة الحاجة، فكانت المصلحة فيه، وقد تعينت المصلحة فيما بعد ذلك في وقف الأرض، فكان هوالواجب " . أ هـ لم يخرج عمر عن النص القرآني أو يبطله – كما زعم زاعمون – وهو قوله تعالى: " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل... "الأنفال: 41، ولكنه حقق النص بالمنقولات التي يمكن أن تغنم وتحاز بالفعل. ومثل ذلك: موقف الخليفة الثالث عثمان بن عفان، من ضالّة الإبل، التي صح الحديث في النهي عن التقاطها، حتى جاء زمن عثمان، وتغيّر فيه الناس عما كانوا عليه من قبل، فأجاز التقاطها، والتعريف بها ثم تباع، ويحفظ ثمنها لصاحبها، فإذا جاء أخذه. وربما توهم بعض القاصرين أن عثمان خالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وربما اتهمه بذلك. والحق أن عثمان نظر إلى مقاصد الشريعة في الحفاظ على أموال الناس، ففعل ما هو الأصلح في زمنه، كما فعل الرسول ما هو الأصلح في زمنه، كما قال ابن قدامة في عدم تقسيم عمر للعراق. وهذا يدل على أن بعض هذه التصرفات النبوية هي من نوع تصرفه باعتباره إماما ورئيسا للدولة، فهي تقوم على اعتبارات مصلحية في زمنه، فإذا تغيرت تغير الحكم معها. ومن ذلك: موقف عثمان من الزوج يطلق امرأته في مرض الموت، فإن عثمان رأى أن لا يوقع هذا الطلاق لأنه – في الظاهر – أراد الفرار من ميراثها منه، فطلق ليحرمها الميراث. وأقرّه على ذلك الصحابة، وسمّى الفقهاء هذا الطلاق: طلاق الفارّ. ومن ذلك: ما ذهب إليه الخليفة الرابع علي بن أبي طالب من تضمين الصناع قيمة ما يهلك في أيديهم من أموال الناس وأشيائهم وثيابهم، مع أن الأصل أن أيديهم يد أمانة والأمين لا يضمن، ولكنه رأى المصلحة في زمنه للمحافظة على أموال الناس توجب ذلك، فضمّنهم، وقال في ذلك عبارته الشهيرة " لا يصلح الناس إلا ذاك)). 3 ـ التمييز بين المقاصد الثابتة والوسائل المتغيرة: تقرير المقصد الشرعي دون تعيين وسيلة: المتأمل في أحكام الشريعة وأوامرها ونواهيها، يتبين له أن منها ما يقرر المبدأ المطلوب، وهوالمقصود للشارع، ولا يعيّن له وسيلة لتحقيقه، لأن وسائله قابلة للتغير والاختلاف ؛ باختلاف الأزمنة والأمكنة والأعراف والظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولهذا نرى الشارع في هذا المقام يترك المكلفين أحراراً فيما يختارون لأنفسهم من وسائل ملائمة، ولا يقيدهم بوسيلة معينة ***لعصر البعثة، فيتشبث بها بعضهم، ويجمّد نفسه عندها، ويظنها بعضهم أمراً تعبدياً يلزم كل مسلم التقيد به، ولا يجوز له مجرد التفكير في الفكاك منه. وكان الأولى أن تترك تعيين الوسيلة للعقل المسلم، ليختارها وفق ظروفه وأحواله. نرى ذلك في مثل ما قرره القرآن والسنة من (مبدأ الشورى) في الحياة الإسلامية، وخصوصا في الحياة السياسية، كما قال تعالى في القرآن المكي: "وأمرهم شورى بينهم " الشوري: 38. وقال في القرآن المدني: " وشاورهم في الأمر " آل عمران: 159. ولكن كيف تكون الشورى؟ ومن المستشارون؟ وكيف يختار أهل الحل والعقد؟ وكيف يبايع الخليفة ويختار؟ لم يعين الشرع وسيلة لذلك، بل تركها للمسلمين، يجتهدون في اختيارها وتحديدها، وتحسينها وتطويرها، حسب الزمان والمكان، ولذلك اختلفت طريقة اختيار الخلفاء الراشدين الأربعة، كل حسب ظروف اختياره. وفي عصرنا يمكننا اختيار طريقة الترشيح وانتخاب الأفضل بأغلبية الأصوات، كما هوشأن النظام الديمقراطى. ومثل ذلك ما جاء في الشريعة من تقرير قاعدة (الأمر المعروف والنهي عن المنكر)، وما يكملها من قاعدة تغيير المنكر، باليد أو باللسان أو بالقلب. لقد جاء الأمر بذلك عاما، وقررته الشريعة فريضة كفائية على المسلمين، وأحيانا تكون عينية. ولكن كيف ننظم أداء هذه الفريضة على وجهها؟ ومن يقوم بها؟ وما سلطانه واختصاصاته؟. هذا ما عرفه المسلمون وطبّقوه في (نظام الحِسْبة) الذي ابتكره المسلمون، ووضعوا له من الضوابط والشروط والأحكام والتوجيهات ما ينظم أمره، ويضبط سيره. وهكذا نجد كثيرا من (المبادئ) أو(المقاصد) الشرعية، ترك الشارع الحكيم تحديد وسائل معينة لتحقيقها، قصدا للتوسعة على الناس، غير غافل ولا نسيان، وهو داخل فيما أسميناه (منطقة العفو) التي تركها الشارع قصداً تيسيرا على الناس، ورحمة بهم ليملؤوها بما يلائمهم عن طريق القياس أوالاستحسان أو رعاية المصالح المرسلة أو غيرها.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
malsdiik




عدد المساهمات : 8
نقاط : 16
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 27/04/2010

دراسة في فقه مقاصد الشريعة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: دراسة في فقه مقاصد الشريعة    دراسة في فقه مقاصد الشريعة  Emptyالثلاثاء ديسمبر 28, 2010 11:40 am

تعيين وسيلة مناسبة للزمان والمكان: ومن الأحكام ما نرى الشريعة الغراء قد عينت له وسيلة مناسبة للزمان والمكان، لتحقيق المقصد الذي أراده الشارع. ولكن الشارع الحكيم لم يقصد أن تكون هذه الوسيلة عالمية أبدية، بحيث تشمل كل مكان وكل زمان، بل راعى بها ظروف المخاطبين في عصر نزول الوحي، فأرشدهم إلى ما يليق بهم. التمييز بين المقاصد والوسائل: وتعيين بعض هذه الوسائل كان من أسباب الخلط والزلل في فهم الشريعة، كما بينا ذلك في كتابنا: (كيف نتعامل مع السنة النبوية) ؛ فإن بعض الناس خلطوا بين المقاصد والأهداف الثابتة التي تسعى النصوص إلى تحقيقها، وبين الوسائل الآنية والبيئية التي تعيّنها أحيانا للوصول إلى المقصد المنشود، فتراهم يركزون كل التركيز على هذه الوسائل، كأنها مقصودة لذاتها، مع أن الذي يتعمق في فهم النصوص وأسرارها يتبين له أن المهم هوالمقصد، وهو الهدف الثابت والدائم، والوسائل قد تتغير بتغير البيئة أو العصر، أو العرف، أو غير ذلك من المؤثرات. إن الوسائل قد تتغير من عصر إلى عصر، ومن بيئة إلى أخرى، بل هي لابد متغيرة، فإذا جاء النص – ولاسيما من الحديث النبوي - على شيء منها، فإنما ذلك لبيان الواقع، لا ليقيدنا بها، ويجمدنا عندها أبد الدهر. وسيلة رباط الخيل: بل لو نص القرآن نفسه على وسيلة مناسبة لمكان معين، وزمان معين، فلا يعني ذلك أن نقف عندها، ولا نفكر في غيرها من الوسائل المتطورة بتطور الزمان والمكان. ألم يقل القرآن الكريم: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوالله وعدوكم وآخرين من دونهم "الأنفال:60. ومع هذا لم يفهم أحد أن المرابطة في وجه الأعداء لا تكون إلا بالخيل التي نص القرآن عليها. بل فهم كل من له عقل يعرف اللغة والشرع أن خيل العصر هي الدبابات والمدرعات، ونحوها من أسلحة العصر. وأن ما ورد في فضل احتباس الخيل، وعظيم الأجر فيه، مثل حديث: " من احتبس فرسا في سبيل الله، إيمانا بالله وتصديقا بوعده، فإن شبعه وريه، وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة. " يعني حسنات. ومثل حديث: " الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر والمغنم" وغيرها من الأحاديث ينبغي أن يطبق على كل وسيلة تستحدث، تقوم مقام الخيل، أوتتفوق عليها بأضعاف مضاعفة. ومثل ذلك ما جاء في فضل " من رمى بسهم في سبيل الله فله كذا وكذا " . فهو ينطبق على الرمي بالسهم أوالبندقية أوالمدفع أوالصاروخ أوأي وسيلة أخرى يخبئها ضمير الغيب. وسيلة الجلباب للمرأة المسلمة: ويدخل في ذلك ما ذكره القرآن من الأمر بإدناء الجلاليب لنساء المؤمنين، وسيلة لتحقيق الستر والاحتشام للمرأة المسلمة، كما قال تعالى في سورة الأحزاب: " يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن " الأحزاب: 59. فهذا الأمر القرآني لا يعني أن الجلابيب وإدناءها – أي إرخاءها – هوالزي الوحيد المشروع للمرأة المسلمة كما نرى ذلك لدى بعض الملتزمات من نساء المسلمين. ذلك أن الزي أمر يخضع لأعراف البلاد، وبيئات أهلها، ويتغير بتغير الزمان، وتنوّع حاجات الناس، ومتطلبات التطور، والشرع لا يمنع ذلك بشرط المحافظة على المقاصد الأساسية التي يطلبها الشرع في الزي وهي أن يستر المسلمة، ولا يكشف عورة يجب سترها، ولا يشف ولا يصف، ولا يفقد المسلمة خصوصيتها. وتحقيق الستر والحشمة للمسلمة لا يكون بصورة واحدة لا نتعداها، فيمكن تحقق ذلك بالجلباب، أو بالمعطف (البالطو) السابغ، أو بالعباءة فوق الثياب، أو بالملاءة التي كان يلبسها النساء في مصر، أو بلباس من قطعتين سابغتين، وهو ما يسمى (التيير)، أوبغير ذلك مما يبتكره الناس من أزياء ما دامت لا تخالف أوامر الشرع. السواك وسيلة لتنظيف الأسنان: وأعتقد أن تعيين السواك لتطهير الأسنان من هذا الباب؛ فالمقصود هو طهارة الفم، حتى يرضى الرب، كما في الحديث: " السواك مطهرة للفم مرضاة للرب" . ولكن هل السواك مقصود لذاته، أو كان هو الوسيلة الملائمة الميسورة في جزيرة العرب فوصف لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤدى الغرض ولا يعسر عليهم؟ ولا بأس أن تتغير هذه الوسيلة في مجتمعات أخرى، لا يتيسر لها هذا العود من (الأراك)، إلى وسيلة يمكن تصنيعها بوفرة تكفى مئات الملايين من الناس، مثل الفرشاة. وقد نص بعض الفقهاء على ذلك: قال في (هداية الراغب) في الفقه الحنبلي: (ويكون العود من أراك وعرجون وزيتون، وغيرها، لا يجرح ولا يضر ولا يتفت. ويكره بما يجرح أويضر أويتفتت. والذي يضر كالرمان والريحان والطرفاء ونحوها. ولا يصيب السنة من استاك بغير عود). ونقل مهذب الكتاب الشيخ عبد الله البسام عن النووي قوله: (بأي شيء استاك مما يزيل التغير حصل الاستياك، كالخرقة، والإصبع وهو مذهب أبي حنيفة لعموم الأدلة. وفي المغني أنه يصيب السنة بقدر ما يحصل من الإنقاء، ولا يترك القليل من السنة للعجز عن أكثرها، وذكر أنه الصحيح) . رؤية الهلال لإثبات الشهر: ومما يمكن أن يدخل في هذا الباب ما جاء في الحديث الصحيح المشهور: " لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له " . وفي لفظ آخر: " فإن غم عليكم، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " . فهنا يمكن للفقيه أن يقول: إن الحديث الشريف أشار إلى مقصد، وعيّن وسيلة. أما المقصد من الحديث فهو واضح بيّن، وهو أن يصوموا رمضان كله، ولا يضيعوا يوما منه في أوله أو في آخره، أو يصوموا يوما من شهر غيره، كشعبان أو شوال، وذلك بإثبات دخول الشهر أو الخروج منه، بوسيلة ممكنة مقدورة لجمهور الناس، لا تكلفهم عنتا ولا حرجا في دينهم. وكانت الرؤية بالأبصار هي الوسيلة السهلة والمقدورة لعامة الناس في ذلك العصر، فلهذا جاء الحديث بتعيينها، لأنه لوكلّفهم بوسيلة أخرى كالحساب الفلكي– والأمة في ذلك الحين لا تكتب ولاتحسب- لأرهقهم من أمرهم عسرا، والله يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر، وقد قال عليه الصلاة والسلام عن نفسه: " إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا، ولكن بعثني معلما ميسرا " . فإذا وجدت وسيلة أخرى أقدر على تحقيق مقصد الحديث، وأبعد عن احتمال الخطأ والوهم والكذب في دخول الشهر، وأصبحت هذه الوسيلة ميسورة غير معسورة، ولم تعد وسيلة صعبة المنال، ولا فوق طاقة الأمة، بعد أن أصبح فيها علماء وخبراء فلكيون، وجيولوجيون، وفيزيائيون متخصصون على المستوى العالمي، وبعد أن بلغ العلم البشري مبلغا مكن الإنسان أن يصعد إلى القمر نفسه، وينزل على سطحه، ويجوس خلال أرضه، ويجلب نماذخ من صخوره وأتربته ! بل يحاول أن يغزو الكواكب الأبعد مثل المريخ، فلماذا نجمد على الوسيلة– هي ليست مقصودة في ذاتها – ونغفل المقصد الذي نشده الحديث؟!. لقد أثبت الحديث دخول الشهر بخبر واحد أو اثنين يَدَّعيان رؤية الهلال بالعين المجردة، حيث كانت هي الوسيلة الممكنة والملائمة لمستوى الأمة، فكيف يتصور أن يرفض وسيلة لا يتطرق إليها الخطأ أو الوهم، أو الكذب؟ وسيلة بلغت درجة اليقين والقطع، ويمكن أن تجتمع عليها أمة الإسلام في شرق الأرض وغربها، وتزيل الخلاف الدائم والمتفاوت في الصوم والإفطار والأعياد، إلى مدى ثلاثة أيام تكون فرقا بين بلد وآخر ، وهو ما لا يعقل ولا يقبل لا بمنطق العلم، ولا بمنطق الدين، ومن المعلوم أن أحدها هوالصواب، والباقي خطأ بلا جدال. إن الأخذ بالحساب الفلكي القطعي اليوم وسيلة لإثبات الشهور، يجب أن يقبل من باب (قياس الأولى) بمعنى أن السنة التي شرعت لنا الأخذ بوسيلة أدنى، لما يحيط بها من الشك والاحتمال - وهى الرؤية – لا ترفض وسيلة أعلى، وأكمل وأوْفى بتحقيق المقصود، والخروج بالأمة من الاختلاف الشديد في تحديد صيامها وفطرها وأضحاها، إلى الوحدة المنشودة في شعائرها وعباداتها، المتصلة بأخص أمور دينها وألصقها بحياتها وكيانها الروحي، وهي وسيلة الحساب القطعي. على أن العلامة المحدث الكبير الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله، نحا بهذه القضية منحىً آخر فقد ذهب إلى إثبات دخول الشهر القمري بالحساب الفلكي، بناء على أن الحكم باعتبار الرؤية في الحديث النبوي معلل بعلة نصّت عليها الأحاديث نفسها، وقد انتفت الآن، فينبغي أن ينتفي معلولها؛ إذ من المقرر أن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، وهذه العلة هي (أمية الأمة) التي لم تكن تكتب ولا تحسُب في عصر البعثة. ومعنى (ولا تحسُب) أي لا تعرف الحساب الفلكي. فإذا تغيرت طبيعة الأمة وأصبحت تكتب وتحسب وجب أن يتغير الحكم. ويحسن بنا أن ننقل هنا عبارة الشيخ بنصها لما فيها من قوة ونصاعة، قال رحمه الله في رسالته (أوائل الشهور العربية): " فمما لا شك فيه أن قبل الإسلام وفى صدر الإسلام، لم يكونوا يعرفون العلوم الفلكية معرفة علمية جازمة، كانوا أمة أميين، لا يكتبون ولا يحسبون، ومن شدا شيئا من ذلك، فإنما يعرف مبادئ أو قشور، عرفها بالملاحظة والتتبع، أو بالسماع والخبر، لم تبن على قواعد رياضية، ولا على براهين قطعية، ترجع إلى مقدمات أولية يقينية، ولذلك جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجع إثبات الشهر في عباداتهم إلى الأمر القطعي المشاهد، الذي هو في مقدور كل واحد منهم، أو في مقدور أكثرهم. وهو رؤية الهلال بالعين المجردة، فإن هذا أحكم وأضبط لمواقيت شعائرهم وعباداتهم، وهوالذي يصل إليه اليقين والثقة مما في استطاعتهم، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. لم يكن مما يوافق حكمة الشارع أن يجعل مناط الإثبات في الأهلّة الحساب والفلك، وهم لا يعرفون شيئا من ذلك في حواضرهم، وكثير منهم بادُون لا تصل إليهم أنباء الحواضر، إلا في فترات متقاربة حينا، ومتباعدة أحيانا، فلوجعله لهم بالحساب والفلك لأعنتهم، ولم يعرفه منهم إلا الشاذ والنادر في البوادي عن سماع- إن وصل إليهم- ولم يعرفه أهل الحواضر إلا تقليدا لبعض أهل الحساب، وأكثرهم أو كلهم من أهل الكتاب. ثم فتح المسلمون الدنيا، وملكوا زمام العلوم، وتوسعوا في كل أفنانها وترجموا علوم الأوائل، ونبغوا فيها وكشفوا كثيرا من خباياها، وحفظوها لمن بعدهم ومنها علوم الفلك والهيئة وحساب النجوم. وكان أكثر الفقهاء والمحدثين لا يعرفون علوم الفلك، أو هم يعرفون بعض مبادئها، وكان بعضهم أو كثير منهم لا يثق بمن يعرفها ولا يطمئن إليه، بل كان بعضهم يرمى المشتغل بها بالزيغ والابتداع، ظنا منه أن هذه العلوم يتوسل بها أهلها إلى ادعاء العلم بالغيب (التنجيم)، وكان بعضهم يدعى ذلك فعلا، فأساء إلى نفسه وإلى علمه. والفقهاء معذورون، ومن كان من الفقهاء والعلماء يعرف هذه العلوم لم يكن بمستطيع أن يحدد موقفها الصحيح بالنسبة إلى الدين والفقه، بل كان يشير إليها على تخوف. هكذا كان شأنهم؛ إذ كانت العلوم الكونية غير ذائعة ذيعان العلوم الدينية وما إليها، ولم تكن قواعدها قطعية الثبوت عند العلماء. وهذه الشريعة الغرّاء السمحة، باقية على الدهر، إلى أن يأذن الله بانتهاء هذه الحياة الدنيا، فهي تشريع لكل أمة ولكل عصر، ولذلك نرى في نصوص الكتاب والسنة إشارات دقيقة لما يستحدث من الشؤون، فإذا جاء مصداقها فُسرت وعُلمت، وإن فسرها المتقدمون على غير حقيقتها. وقد أشير في السنة الصحيحة إلى ما نحن بصدده، فروى البخاري من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنّا أمّة أميّة لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا.. يعنى مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين " ورواه مالك في الموطأ : " الشهر تسعة وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له". وقد أصاب علماؤنا المتقدمون رحمهم الله في تفسير معنى الحديث، وأخطأوا في تأويله، ومن أجمع قول لهم في ذلك: قول الحافظ ابن حجر : " المراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها، ولم يكونوا يعرفون من ذلك إلا النزر اليسير. فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية، لرفع الحرج عنهم في معاناة التسيير، واستمر الحكم في الصوم، ولوحدث بعدهم من يعرف ذلك. بل ظاهر السياق ينفي تعليق الحكم بالحساب أصلا. ويوضحه قوله في الحديث الماضي: (فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين) ولم يقل: فسلوا أهل الحساب. والحكمة فيه كون العدد عند الإغماء يستوي فيه المكلفون، فيرتفع الاختلاف والنزاع عنهم. وقد ذهب قوم إلى الرجوع إلى أهل التسيير في ذلك. وهم الروافض ، ونقل عن بعض الفقهاء موافقتهم، قال الباجي: وإجماع أهل السلف الصالح حجة عليهم. وقال ابن بزيزة: وهومذهب باطل، فقد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم لأنها حدس وتخمين، ليس فيها قطع ولا ظن غالب، مع أنه لو ارتبط الأمر بها لضاق، إذ لا يعرفها إلا القليل ". فهذا التفسير صواب، في أن العبرة بالرؤية لا بالحساب، والتأويل خطأ، في أنه لوحدث من يعرف استمر الحكم في الصوم (أي باعتبار الرؤية وحدها) لأن الأمر باعتماد الرؤية وحدها جاء معللا بعلة منصوصة، وهى أن الأمة " أمية لا تكتب ولا تحسب"، والعلة تدور مع المعلول وجودا وعدما، فإذا خرجت الأمة عن أميتها، وصارت تكتب وتحسب- أعني صارت في مجموعها ممن يعرف هذه العلوم، وأمكن الناس– عامتهم وخاصتهم– أن يصلوا إلى اليقين والقطع في حساب أول الشهر، وأمكن أن يثقوا بهذا الحساب ثقتهم بالرؤية أو أقوى- إذا صار هذا شأنهم في جماعتهم، وزالت علة الأميّة، وجب أن يرجعوا إلى اليقين الثابت، وأن يأخذوا في إثبات الأهلة بالحساب وحده، وأن لا يرجعوا إلى الرؤية إلا حين يستعصي عليهم العلم به، كما إذا كان ناس في بادية أو قرية، لا تصل إليهم الأخبار الصحيحة الثابتة عن أهل الحساب. وإذا وجب الرجوع إلى الحساب وحده بزوال علة منعه، وجب أيضا الرجوع إلى الحساب الحقيقي للأهلة، واطراح إمكان الرؤية وعدم إمكانها، فيكون أول الشهر الحقيقي الليلة التي يغيب فيها الهلال بعد غروب الشمس، ولوبلحظة واحدة " . وما كان قولي هذا بدعا من الأقوال- أن يختلف الحكم باختلاف أحوال المكلفين- فإن هذا في الشريعة كثير، يعرفه أهل العلم وغيرهم. ومن أمثلة ذلك في مسألتنا هذه: أن الحديث "فإن غم عليكم فاقدروا له" ورد بألفاظ أخر، في بعضها " فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " ففسر العلماء الرواية المجملة " فاقدروا له " بالرواية المفسرة " فأكملوا العدة " ولكن إماما عظيما من أئمة الشافعية، بل هو إمامهم في وقته، وهو أبوالعباس أحمد بن عمر بن سريج ، جمع بين الروايتين، بجعلهما في حالتين مختلفتين؛ أي أن قوله: "فاقدروا له " معناه قدروه بحسب المنازل، وأنه خطاب لمن خصه الله بهذا العلم، وأن قوله " فأكملوا العدة " خطاب للعامة . فقولي هذا يكاد ينظر إلى قول ابن سريج، إلا أنه جعله خاصا بما إذا غم الشهر فلم يره الراؤون، وجعل حكم الأخذ بالحساب للأقلين، على ما كان في وقته من قلة عدد العارفين به، وعدم الثقة بقولهم وحسابهم، وبطء وصول الأخبار إلى البلاد الأخرى، إذا ثبت الشهر في بعضها، وأما قولي فإنه يقضى بعموم الأخذ بالحساب الدقيق الموثوق به، وعموم ذلك على الناس، بما يسر في هذه الأيام من سرعة وصول الأخبار وذيوعها. ويبقى الاعتماد على الرؤية للأقل النادر، ممن لا يصل إليه الأخبار، ولا يجد ما يثق به من معرفة الفلك ومنازل الشمس والقمر. ولقد أرى قولي هذا أعدل الأقوال، وأقربها إلى الفقه السليم، وإلى الفهم الصحيح للأحاديث الواردة في هذا الباب ا.هـ. هذا ما كتبه العلامة أحمد شاكر منذ ثمانية وستين سنة هجرية أو ستة وستين عاما شمسية (ذي الحجة 1357 هـ – الموافق يناير 1939 م). ولم يكن علم الفلك في ذلك الوقت قد وصل إلى ما وصل إليه اليوم من وثبات استطاع بها الإنسان أن يغزو الفضاء، ويصعد إلى القمر، ويحاول الوصول إلى ما هو أبعد منه، وانتهى هذا العلم إلى درجة من الدقة، غدا احتمال الخطأ فيها واحدة إلى مائة ألف في الثانية !! كتب هذا الشيخ شاكر، وهو رجل حديث وأثر قبل كل شيء، عاش حياته – رحمه الله- لخدمة الحديث، ونصرة السنة النبوية، فهو رجل سلفي خالص، رجل اتباع لا رجل ابتداع، ولكنه رحمه الله لم يفهم السلفية على أنها جمود على ما قاله من قبلنا السلف، بل السلفية الحق هي أن ننهج نهجهم، ونشرب روحهم، فنجتهد لزمننا كما اجتهدوا لزمنهم، ونعالج واقعنا بعقولنا لا بعقولهم، غير مقيدين إلا بقواطع الشريعة، ومحكمات نصوصها وكليات مقاصدها. هذا وقد قرأت مقالا مطولا في شهر رمضان لعام 1409هـ لأحد المشايخ الفضلاء ، أشار فيه إلى أن الحديث النبوي الصحيح: " نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب " يتضمن نفي الحساب، وإسقاط اعتباره لدى الأمة. ولو صح هذا لكان الحديث دالاً على نفي الكتابة، وإسقاط اعتبارها أيضا، فقد تضمن الحديث أمرين دلل بها على أمية الأمة، هما: الكتابة والحساب. ولم يقل أحد في القديم ولا في الحديث: إن الكتابة أمر مذموم أومرغوب عنه بالنسبة للأمة، بل الكتابة أمر مطلوب، دل عليه القرآن والسنة والإجماع. وأول من بدأ بنشر الكتابة هو النبي صلى الله عليه وسلم، كما هو معلوم من سيرته، وموقفه من أسرى بدر، وقد جعل فداء (الكاتبين) منهم أن يعلم كل واحد منهم عشرة من أبناء المسلمين الكتابة. ومما قيل في هذا الصدد: إن الرسول لم يشرع لنا العمل بالحساب، ولم يأمرنا باعتباره، وإنما أمرنا باعتبار (الرؤية) والأخذ بها في إثبات الشهر. وهذا الكلام فيه شيء من الغلط أوالمغالطة، لأمرين: الأول: إنه لا يعقل أن يأمر الرسول بالاعتداد بالحساب، في وقت كانت فيه الأمة أمية ، لا تكتب ولا تحسب، فشرع لها الوسيلة المناسبة لها، زمانا ومكانا، وهي الرؤية المقدورة لجمهور الناس في عصره. ولكن إذا وجدت وسيلة أدق وأضبط وأبعد عن الغلط والوهم، فليس في السنة ما يمنع اعتبارها. الثاني أن السنة أشارت بالفعل إلى اعتبار الحساب في حالة الغيم وهو ما رواه البخاري في كتاب الصوم من جامعه الصحيح بسلسلته الذهبية المعروفة عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال: " لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له" . وهذا (القدْر) له أو(التقدير) المأمور به، يمكن أن يدخل فيه اعتبار الحساب لمن يحسنه، ويصل به إلى أمر تطمئن الأنفس إلى صحته، وهو ما أصبح في عصرنا في مرتبة القطعيات، كما هو مقدر معلوم لدى كل من عنده أدنى معرفة بعلوم العصر، وإلى أي مدى ارتقى فيها الإنسان الذي علّمه ربه ما لم يكن يعلم. وقد كنت ناديت منذ سنين بأن نأخذ بالحساب الفلكي القطعي- على الأقل في النفي لا في الإثبات -تقليلا للاختلاف الشائع الذي يحدث كل سنة في بدء الصيام وفي عيد الفطر، إلى حد يصل إلى ثلاثة أيام بين بعض البلاد الإسلامية وبعض. ومعنى الأخذ بالحساب في النفي أن نظل على إثبات الهلال بالرؤية وفقا لرأي الأكثرين من أهل الفقه في عصرنا، ولكن إذا نفى الحساب إمكان الرؤية، وقال إنها غير ممكنة- لأن الهلال لم يولد أصلا في أي مكان من العالم الإسلامي، أوولد ولكن لا تمكن رؤيته- كان من الواجب ألا تقبل شهادة الشهود بحال، لأن الواقع - الذي أثبته العلم الرياضي القطعي – يكذبهم. بل في هذه الحالة لا يطلب ترائي الهلال من الناس أصلا، ولا تفتح المحاكم الشرعية، ولا دور الفتوى أو الشئون الدينية أبوابها لمن يريد أن يدلي بشهادته عن رؤية الهلال. هذا ما اقتنعت به، وتحدثت عنه في فتاوى ودروس ومحاضرات وبرامج عدة، ثم شاء الله أن أجده مشروحا مفصلا لأحد كبار فقهاء الشافعية، وهو الإمام تقي الدين السبكي، (ت 756) الذي قالوا عنه إنه بلغ مرتبة الاجتهاد. فقد ذكر السبكي في فتاواه أن الحساب إذا نفى إمكان الرؤية البصرية، فالواجب على القاضي أن يرد شهادة الشهود؛ قال: " لأن الحساب قطعي، والشهادة والخبر ظنيان، والظن لا يعارض القطع، فضلا عن أن يقدم عليه ". وذكر أن من شأن القاضي أن ينظر في شهادة الشاهد عنده، في أي قضية من القضايا، فإن رأى الحس أوالعيان يكذبها ردها ولا كراهة. وقال: "والبينة شرطها أن يكون ما شهدت به ممكنا حسا وعقلا وشرعا، فإذا فرض دلالة الحساب قطعا على عدم الإمكان: استحال القبول شرعا، لاستحالة المشهود به، والشرع لا يأتى بالمستحيلات " . أما شهادة الشهود فتحمل على الوهم أوالغلط أوالكذب. فكيف لوعاش السبكي إلى عصرنا، ورأى من تقدم علم الفلك (أوالهيئة كما كانوا يسمونه) ما أشرنا إلى بعضه؟. وقد ذكر الشيخ شاكر في بحثه أن الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر الشهير في وقته، كان له رأي – حين كان رئيسا للمحكمة العليا الشرعية – مثل رأي السبكي، برد شهادة الشهود إذا نفى الحساب إمكانية الرؤية، قال الشيخ شاكر: (( وكنت أنا وبعض إخواني ممن خالف الأستاذ الأكبر في رأيه، وأنا أصرح الآن أنه كان على صواب، وأزيد عليه: وجوب إثبات الأهلة بالحساب في كل الأحوال، إلا لمن استعصى عليه العلم به)). خطر تحويل المقاصد إلى وسائل أوالعكس: وأريد هنا أن أنبه إلى نقطة في غاية الأهمية وهي محاولة بعضهم أن يحول المقاصد إلى وسائل، ومعنى هذا: أن هذه المقاصد والغايات تغدو قابلة للتغير، بل للإزالة نهائيا، واستبدال غيرها بها. وهذا أظهر ما يكون في العبادات الشعائرية الكبرى مثل: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وهي الأركان العملية التي بني عليها الإسلام، والتى ثبتت بحديث جبريل الشهير، وبحديث: (بني الإسلام على خمس)، وبإجماع الأمة اليقيني المستقر، المرتبط بالعمل المستمر. فمن العوام من يقول: (( المهم أن يطهر قلبك، ويصحو ضميرك، وتخلص لله في عملك، وليس المهم أن تركع أو تسجد، أو تجوع وتعطش، أو أن ترتحل إلى مكة وتطوف حول الكعبة)). ويستدل العوام على ذلك بأن من الناس من يؤدِّي هذه العبادات، ولكنها لا تترك أثراً في نفسه من صلاح واستقامة، ويقولون في هذا: (( يصلي الفرض، وينهب الأرض)). أو: ((لسانه يسبح، ويده تذبح)). ويساعدهم على ذلك بعض الأدباء والشعراء فيقول قائلهم: إذا رام كيدًا بالصلاة مقيمها فتاركها عمدا إلى الله أقرب وهناك من الخواص، بل من كبار الفلاسفة من يذهب مذهب هؤلاء العوام – أوقريبا منه – رغم سعة أُفقه، وعمق تفكيره، ويقول: ((إنما شرعت العبادات لتهذيب أنفس العوام. أما الفلاسفة، فليسوا في حاجة إلى هذه العبادات، لأن نفوسهم تترقى بالمعرفة والتفكر والتأمل)). وهذه نظرة خاطئة من أصحابها، وإن كانوا فلاسفة كبارا، وذلك لعدة أسباب: أولها: أن العبادة حق الخالق المنعم الوهاب على عباده المخلوقين، الذي سخر لهم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنه، ومنها: نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة إعطاء العقل، وتعليم البيان. وثانيها: أن المخلوق لا يستغني عن خالقه طرفة عين، ولا حول ولا قوة له إلا به، سواء كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، أم كان عالما من أكبر علماء الكون، أم فيلسوفا من أعظم الباحثين عن الحكمة أوالمحبين لها. وثالثها: أن هذه الفكرة فيها نظرة استعلائية على الناس، وكأن الفلاسفة خلقوا من ذهب في حين خلق الناس من طين. وكان المفروض في الفلسفة أن تدعو أصحابها إلى التواضع للخلق، ناهيك عن التواضع للخالق. ورابعها: أن الفلسفة – في عالم الواقع – لم تعصم أصحابها من ضلال الفكر، ومن انحراف السلوك، ومن مسايرة الطغاة، ومن اتباع الشهوات، لأن المعرفة وحدها لا تؤدي بالضرورة إلى الفضيلة، كما ظن سقراط، بل لابد معها من الإرادة. هذا، وقد ناقشت هذه الفكرة في ثاني كتاب أدخل به ميدان التأليف بعد (الحلال والحرام) وهوكتاب (العبادة في الإسلام) ولا بأس أن أنقل منه هذه الفقرة: هل العبادة مجرد وسيلة لتهذيب النفس؟ هناك دعوة خبيثة شريرة يروجها بعض الملحدين المستكبرين عن عبادة الله، فتجد هؤلاء يستغلون ما جاء به الدين نفسه من رد العبادة السطحية المرائية التي لا تنفذ إلى القلب، ولا تزكي النفس، ولا تنهى عن فحشاء أو منكر، يستغلون هذا ليقولوا: ((إن الغرض من الأديان وعقائدها وعباداتها: إنما هو إصلاح النفس وتربية الضمير، واستقامة الخلق.. فإذا وصلنا إلى هذه النتيجة بأي وسيلة أخرى كالتهذيب النفسي المجرد، والتربية الأخلاقية المدنية، فلسنا بحاجة إلى العبادة والشعائر والصلوات والمناسك، فإنما هذه وسائل لا غايات، وقد انتهينا إلى الغاية التي يريدها الله منا، فما تشبثنا بالوسيلة؟ وما حاجتنا إليها؟)). هذه هي الدعوة الجاحدة الماكرة التي ذهب إليها بعض المتفلسفين قديما، وبعض المنحرفين حديثا. وهي دعوة باطلة يراد بها باطل. صلاح النفس ثمرة للعبادة الحقة وليس علة له: أما أنها دعوة باطلة؛ فلأن العبادة مطلوبة لذاتها، وغاية في نفسها. بل هي – كما أوضح القرآن – مراد الله من خلق المكلفين إنسا وجنا، بل هي الغاية وراء خلق السماوات والأرض قال تعالى: "الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شئ قدير، وأن الله قد أحاط بكل شئ علما " سورة الطلاق: 12. "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " سورة الذاريات: 56. والمقصود الأول من العبادة – كما ذكرنا – هو أداء حق الله عز وجل. المقصود بالعبادة أن يعرف الإنسان نفسه فقيرا لا حول ولا قوة له إلا بربه، ولا اعتماد له إلا عليه، ولا قيام له بذاته، ويعرف ربه عليا كبيرا، غنيا عن العالمين، "يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هوالغنى الحميد. إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد. وما ذلك على الله بعزيز " فاطر : 15 -17. فإظهار العبودية لرب العالمين، وامتثال أمره سبحانه فيما تعبّد به خلْقَه، هو علة العبادات كلها من صلاة وصيام، وزكاة وحج، وتلاوة وذكر، ودعاء واستغفار، واتباع للشريعة، والتزام بأحكام الحلال والحرام. أما صلاح النفس، وزكاة الضمير، واستقامة الأخلاق، فهي ثمرة لازمة للعبادة الحقة، وليست علة غائية لها، لهذا قال تعالى: " اعبدوا ربكم... لعلكم تتقون "سورة البقرة: 21 وقال: " كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون " سورة البقرة: 183. فالتعبير بـ " لعل " هنا التي تفيد الترجي– دون التعبير بلام التعليل أو" كي " – يفيد أن العبادة، أو الصيام تجعلهم على رجاء التقوى وتعدهم لها. وحتى لو ذكر التعليل صريحا، ما أفاد ذلك ترك العبادة إذا لم تؤد إلى التقوى، وإنما تفيد إعادة النظر في العبادة وإحسانها، حتى تؤتي أكلها من تقوى الله وخشيته. ولوفرضنا أن قلنا لفلاح: ازرع لتحصد؛ فزرع ولم يحصد الحصاد المرجو، لتقصيره في بعض ما كان واجبا عليه أن يرعاه، لم يكن معنى ذلك أن نقول له: أترك الزرع والغرس؛ مع أنه مهمته التي لا وظيفة له غيرها. وكل ما يقال له: ابذل جهدا أكثر، ووف عملك حقه من الإتقان، لتحصل على ثمرة أفضل. ولو أن إنسانا صلى الصلوات الخمس، أو صام رمضان مثلا، ولم يقصد بذلك إلا تزكية نفسه، وتربية خلقه، دون الالتفات إلى حق الله عليه، والقيام بواجب العبودية له جل شأنه؛ ما كانت هذه الصلاة وذاك الصيام إلا عادة من العادات لا يؤبه لها في ميزان الحق، ولا تحظى بذرة من القبول عند الله. مقصد أصلي ومقاصد تابعة للعبادة: ذلك أن للعبادة – كما قال الإمام الشاطبي – مقصدا أصليا، ومقاصد تابعة، فالمقصد الأصلي فيها هو: التوجه إلى الواحد المعبود بغاية الخضوع والطاعة والمحبة له، وإفراده بالقصد إليه في كل حال، ويتبع ذلك: قصد التعبد لنيل الدرجات في الآخرة أو ليكون من أولياء الله تعالى، وما أشبه ذلك. ومن المقاصد التابعة للعبادة: صلاح النفس واكتساب الفضيلة. قال الشاطبي: فالصلاة مثلا، أصل مشروعيتها الخضوع لله سبحانه، بإخلاص التوجه إليه، والانتصاب على قدم الذلة والصغار بين يديه، وتذكير النفس بالذكر له. قال تعالى: " وأقم الصلاة لذكرى" طه: 14. وقال: " إن الصلاة تنهى الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر " سورة العنكبوت: 45. يعني أن اشتمال الصلاة على التذكير بالله أكبر وأعظم من نهيها عن الفحشاء والمنكر، لأن ذكر الله هوالمقصود الأصلي , وفى الحديث " إن المصلي يناجى ربه " . ثم إن لها مقاصد تابعة كالنهي عن الفحشاء والمنكر، والاستراحة إليها من أنكاد الدنيا، كما في الخبر: " أرحنا بها يا بلال " وفى الصحيح " وجعلت قرة عيني في الصلاة " . وإنجاح الحاجات كصلاة الاستخارة وصلاة الحاجة.. وطلب الفوز بالجنة والنجاة من النار، وهي الفائدة العامة الخالصة، وكون المصلي في خفارة الله. وفى الحديث: " من صلّى الصبح لم يزل في ذمة الله " . ونيل أشرف المنازل قال تعالى: "ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا" الإسراء: 79؛ "فأُعطي بقيام الليل المقام المحمود". وكذلك سائر العبادات لها فوائد أخروية وهي العامة، وفوائد دنيوية، وهي كلها تابعة للفائدة الأصلية، وهي الانقياد والخضوع لله" . ولا حرج على المؤمن أن يطلب بعبادته الفوائد الأخروية من الفوز بالجنة والنجاة من النار. فإن هذا داخل تحت معنى الرجاء في مثوبة الله، والخشية من عذابه، وهوضرب من العبودية لرب العالمين، والخوف والرجاء بهذا المعنى لا يقدح في الإخلاص لله. أما الفوائد الدنيوية فلا يجوز أن تكون الباعث الوحيد للعبادة، سواء كانت مادية أو معنوية. وقد أنكر الراسخون من العلماء ما كان يشيع في رحاب التصوف وبين بعض أتباعه ومريديه، من التعبد بقصد تجريد النفس، وتصفيتها من الشواغل والعلائق، لتكون أهلا للاطلاع على عالم الأرواح ورؤية الملائكة، وخوارق العادات، ونيل الكرامات، والحصول على العلم (اللدني) الموهوب من لدن الله.. وما أشبه ذلك. أنكروا هذا وقالوا إنه خروج عن طريق العبادة، وتَخرّص على علم الغيب، ويزيد بأن جعل عبادة الله وسيلة إلى ذلك، وهوأقرب إلى الانقطاع عن العبادة؛ لأن صاحب هذا القصد داخل – بوجه ما – تحت قوله تعالى: " ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هوالخسران المبين " سورة الحج: 11؛ كذلك هذا: إن وصل إلى ما طلب فرح به وصار قصده من التعبد، فقوي في نفسه مقصوده، وضعفت العبادة؛ وإن لم يصل رمى بالعبادة، وربما كذب بنتائج الأعمال التي يهبها الله لعباده المخلصين. وقد روي أن بعض الناس سمع بحديث: " من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه " فتعرض لذلك لينال الحكمة، فلم يفتح له بابها. فبلغت القصة بعض الفضلاء، فقال: "هذا أخلص للحكمة ولم يخلص لله !". والخلاصة أن كل دعوة تغفل المقصود الأصلي في العبادات, وتهيل تراب النسيان عليه، وتشيد بالمقاصد الفرعية التابعة، وتسلط الأضواء عليها وحدها، هي دعوة باطلة ؛ لأنها تضاد القصد الأول من العبادة، بل القصد الأول من الدين، بل القصد الأول من خلق الناس، بل من خلق السماوات والأرض. استكبار عن عبادة الله: وأما ما وراء هذه الدعوة من أغراض خبيثة ؛ فإن أربابها يبطنون إلحاداً وكفراً واستكباراً على الله، واستنكافاً عن عبادته، ويخفون ذلك تحت ستار التحمس للأخلاق المجردة، والفضيلة الذاتية، كما يخفى السم الزعاف في الحلووالدسم. فما أجدر هؤلاء بوعيد الله: "إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين" غافر: 60، " ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا. فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله، وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذاباً أليماً، ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا "النساء: 172 – 173. وما أجدر هؤلاء المتكبرين على الله أن يحرموا من نور الهداية إلى الحق، واستبانة طريق الرشد، فإن الكبر يعمي ويصم، وصدق الله: " سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا. ذلك بأنهم كذّبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين " الأعراف: 146. إن الله تعالى ليس في حاجة إلى عبادة أحد من خلقه، فهو سبحانه غني عن العالمين. وعبّاد الله ليسوا قليلين، فالكون كله يعبد الله بلغة نجهلها نحن البشر: "تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن، وإن من شيء إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم " الإسراء: 44. وحسبنا من العقلاء العابدين: الملائكة في السموات السبع وفي كل مكان: " لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون. يسبحون الليل والنهار لا يفترون " الأنبياء: 19، 20. فأين موضع هؤلاء الذين حسبوا أنفسهم كبراء على عبادة الله؟ " فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون" فصلت: 38. 4- الملائمة بين الثوابت والمتغيرات: ومن مرتكزات المدرسة الوسطية أنها تلائم بين ثوابت الشرع ومتغيرات الزمان والمكان والحال. فأما الثوابت، فلا يمكن المساس بها بحال، وهي (الدائرة المغلقة) التي لا يدخلها الاجتهاد، ولا التجديد ولا التطور. بل هي (المحور) أو(قطب الرحى) الذي يدور حوله المجتهدون والمجددون والمتطورون. فكل ما حوله يتحرك وهوثابت. وهذه الثوابت تتمثل في: - العقائد الأساسية، مثل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهذه الخمسة مذكورة في القرآن وأضافت إليها السنة: الإيمان بالقدر، وهو داخل ضمن دائرة الإيمان بالله. - وأركان الإسلام العملية، مثل: الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا. - وأمهات الفضائل الأخلاقية، مما جاء به القرآن من أخلاق المؤمنين، ومما جاءت به السنة من شعب الإيمان، مثل: العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، والصدق والأمانة، والعفة عن الحرام، والرحمة، والصبر والشكر، والحياء. - وأمهات المحرمات القطعية الظاهرة من القتل والزنا والشذوذ الجنسي وشرب الخمر ولعب الميسر والسرقة، والغصب، والسحر وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، والتولي يوم الزحف، وشهادة الزور، وعقوق الوالدين، وقطع الأرحام، والغيبة والنميمة، والكذب، والعدوان على حرمات الناس. - وكذلك المحرمات الباطنة، مثل: الكبر والغرور والحسد والبغضاء، والرياء والعجب، وحب الدنيا، واتباع الهوى، والشُّح. - وأمهات الأحكام الشرعية القطعية في الأكل والشرب واللباس والزينة، والبيع والشراء، والمعاملات المالية، والنكاح , والطلاق، والوصية، والميراث، والعقوبات الشرعية المقدرة كالحدود والقصاص، والثابتة بالقرآن، ونحوها. فهذه هي الثوابت القطعية، التي لا يجوز تجاوزها بحال، وهي مسورة بسور منيع لا يقبل الاختراق، وهو(القطعية في الثبوت والدلالة) فلا مجال فيها لاجتهاد أو تجديد. ومن المعلوم أن دائرة (الثوابت) محدودة جدا. ولكنها مهمة جدا؛ لأنها هي الدالة على هوية الأمة وذاتيتها وتميزها، وهي التي تحفظ الأمة من الذوبان في غيرها، كما تحفظ عليها وحدتها، وتحميها من التفكك إلى أمم مختلفة، بعد أن جعلها الله أمة وسطا. وما عدا ذلك، من الأحكام الفرعية والجزئية، فهو من المتغيرات، مما ثبت بنصوص ظنية الثبوت أوظنية الدلالة، أوظنيتهما معا. وهذه الدائرة دائرة رحبة، تدخل فيها معظم أحكام الشريعة، وهي قابلة للاجتهاد والتجديد والتطور. والعلمانيون من مدرسة التعطيل يحاولون باستمرار تذويب الحدود، وإزالة الفوارق بين الدائرتين، ليجعلوا الثابت متغيرا، فيتمكنوا من تغيير الشريعة، حيثما يخترقون ثوابتها. والمدرسة الوسطية تقف لهم بالمرصاد. شبهة لأستاذ حقوق: وسأكتفي هنا بالرد على أحد المعبرين عن مدرسة تعطيل النصوص القطعية، ممن ينتسبون إلى القانون ويقومون – للأسف- بتدريسه لأبناء المسلمين الذين وضعتهم الأمة أمانة بين أيديهم، وذلكم هوالدكتور نور فرحات أستاذ القانون وعميد كلية الحقوق بجامعة الزقازيق، الذي يقول في إحدى مقالاته: "لا يختلف علماء الشريعة والباحثون فيها، والمؤرخون لها، على أنها تتضمن ثوابت ومتغيرات، فثوابتها هي تلك المبادئ والأحكام والأفكار التي لا تتغير أو تتبدل بتغير الأمكنة أو تبدل الأزمنة، أما متغيراتها فهي ذلك القدر النسبي من المبادئ والأحكام والأفكار، الذي يتبع أعراف الناس ومعتقداتهم وأحوالهم ودرجة التقدم والمدنية التي يعيشون عليها. فقضية احتواء الشريعة على بعض من الثوابت وبعض من المتغيرات قضية لا خلاف عليها، ولكن الخلاف هوحول محتوى هذه الثوابت وتلك المتغيرات، أي حول ما يعد ثابتا وما يعد متغيرا من أحكام الشريعة ومبادئها. ولا خلاف أيضا على أن أول ثوابت الشريعة وأساسها: ما تعلق منها بالعقائد وبأركان الإسلام وبالعبادات؛ فهذه أحكام أساسية في الإسلام تعد بمثابة الدعائم الكبرى له، لا يقبل من مسلم إلا أن يسلم بها كحقائق كلية لا تتغير بتغير الزمان والمكان، ولا خلاف أيضا أن ما لم يرد فيه نص قطعي الثبوت وقطعي الدلالة، يعتبر من المتغيرات، التي تختلف باختلاف الظروف، التي تمر على المجتمعات الإسلامية، مادام داخلا في إطار المقاصد العامة للشريعة الإسلامية.. ولكن الخلاف هو حول ما ورد فيه من مسائل المعاملات نص شرعي قطعي الثبوت، أي ثابت بمصدره على وجه القطع واليقين، قطعي الدلالة، أي لا شبهة في تأويله: هل يطبق حتى ولو كان فيه إضرار بمصالح المسلمين؟ وهل يؤخذ به حتى لو اختلف السياق التاريخي وقت التطبيق عن السياق التاريخي وقت نزول النص؟ وهل تؤخذ هذه النصوص الأخيرة بالحكمة منها دون تمسك بحرفية تطبيقها عملا بمبدأ (إن الدين يسر لا عسر)، وإن الأحكام مبناها مصالح العباد، لأن الله سبحانه وتعالى ما جعل علينا في الدين من حرج؟ أم أنها واجبة التطبيق دون النظر لما نتصوره عن آثارها الاجتماعية التي قد تبدو لنظرتنا القاصرة أنها غير ملائمة، لأنها تمثل شـرع الله، وشرع الله أولى بالتطبيق من شرع الناس". يقول الكاتب: " في هذه الفئة الأخيرة من الأحكام العملية، التي ثار الخلاف حول ثباتها أوتغيرها، يدخل أغلب ما ينادي بالأخذ به وتطبيقه اليوم دعاة تطبيق الشريعة الإسلامية، وأظهرها مسائل الحدود، وإبطال الربا في المعاملات المالية. إذن يبقى الخلاف محصورا في مسائل الحدود والمعاملات التي أتى بها نص شرعي قطعي الثبوت والدلالة، مثل قوله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا) البقرة: 275، (يمحق الله الربا ويربي الصدقات) البقرة: 276، (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء ما كسبا نكالا من الله) المائدة: 38، (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أويصلبوا..) المائدة: 33. وقوله صلى الله عليه وسلم: " من بدل دينه فاقتلوه"، إلى آخر ذلك من الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة التي تضع حكما قطعيا لأمر من أمور الدنيا يهم معايش المسلمين، وينظم علاقاتهم الاجتماعية". ويتكئ الكاتب هنا – كما اتكأ غيره من كتاب المدرسة المعطلة لنصوص القرآن والسنة- على فقرة من مقولة نجم الدين الطوفي الحنبلي، التي ذكرناها من قبل، والتي أخذوا منها ما يؤيد دعواهم، ويوافق هواهم، وتركوا منها ما يرد عليهم، ويبطل زعمهم. وقد نقل د. فرحات نصا من كلام الطوفي المؤيد له، ثم قال: " ولوقدر لنا أن نخاطب شيخنا الجليل الإمام سليمان الطوفي رحمه الله ورضي عنه وأرضاه، لسألنا سؤال الفتى الحائر لشيخه العالم الوقور: أستاذنا وشيخنا الجليل.. أنت تعلم أن النص الشرعي الموجب لقطع يد السارق قد نزل في مجتمع كان يعتمد في نشاطه الاقتصادي على التجارة، التي لا يزرع مباشرها حقلا ولا يدير آلة في مصنع، فهل ترى أن نبقي على تطبيق النص بعقوبة القطع في مجتمعنا الذي نحن أحوج ما نكون فيه إلى سواعد أبنائه، على استقامتهم وانحرافهم..." أ.هـ. الرد على ما أثاره الكاتب: وقد رددت على الكاتب في بعض كتبي، وبينت تهافت مقولته. وأنا هنا أكتفي ببعض النقاط الأساسية التي تغني عن سواها في بيان فساد كلام الكاتب. أولا: خالف الكاتب القواعد الشرعية القطعية التي أجمع عليها المسلمون في جميع العصور، ومن كل المذاهب، حيث جعل المسائل التي أتى بها (نص شرعي قطعي الثبوت والدلالة) قابلة للخلاف، وهومخالف للإجماع اليقيني، ومخالف لطبيعة هذه النصوص، باعتبارها (قطعية الثبوت والدلالة). فالمفروض أن هذه (القطعيات) هي التي يحتكم إليها عند الخلاف، ويرجع إليها عند التنازع، لا أن تكون هي نفسها موضعا للخلاف، وإلا لما صح وصفها بالقطعية في الجانبين: الثبوت والدلالة معا. ويبدومن الأمثلة التي ذكرها الكاتب أنه حشر نفسه فيما لا يحسنه، وأنه لا يفهم معنى قطعية الثبوت، ولا معنى قطعية الدلالة!. ثانيا: أوهم الكاتب أن نصوص الشريعة القطعية يمكن أن تتعارض مع المصالح الاجتماعية للناس. وهذا لا يمكن أن يقع إلا من باب الوهم والخطأ؛ فمن المقرر المعروف أن القطعيات لا تتعارض أبدا مع المصالح. فإما أن يتوهم غير المصلحة مصلحة، وإما أن يتوهم غير القطعي قطعيا. وقد لمسنا هذا وشاهدناه فيما طالب ويطالب به دعاة العلمانية والتبعية للغرب أوالشرق؛ فمنهم من طالب باسم المصلحة بإباحة البغاء، ومنهم من طالب بإباحة الخمر، ومن طالب بإباحة الربا، ومنهم من طالب بتعطيل فريضة الصيام، ومنهم من طالب بتجميد فريضة الحج، ومنهم من طالب بالتسوية بين الأبناء والبنات في الميراث! كل هذا بدعوى الحرص على المصلحة. مع اليقين أن لا مصلحة في شيء من ذلك على التحقيق- وهؤلاء يزعمون أنهم أعلم بمصالح الناس من رب الناس، أو أنهم أبر بهم ممن خلقهم فسوَّاهم، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة! ثالثا: حاول الكاتب أن يفرق بين العبادات والمعاملات، فجعل كل العبادات من الثوابت، وكل المعاملات من المتغيرات. وهذا ليس بمسلَّم ولا صحيح. فهناك من أحكام العبادات ما ليس من الثوابت، لأنه ثبت بنص غير قطعي الثبوت والدلالة، ولهذا اختلفت المذاهب في كثير من أحكام العبادات، ولا سيما في الزكاة التي هي عبادة وحق مالي (ضريبة) معا. وقد بينا ذلك في كتابنا (فقه الزكاة) وفي سلسلة تيسير الفقه (فقه الطهارة) و(فقه الصيام) وكذلك في كتابنا (مائة سؤال في الحج والعمرة). كما إن من أحكام المعاملات وشؤون الحياة ما هومن الثوابت بيقين، وقد ورد في القرآن والسنة ورود العبادات تماما، وربما بنفس الصيغة، مثل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب علكيم القصاص في القتلى) البقرة: 178. فهذا شأن الأية التي جاءت بعدها بثلاث آيات، وهي قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم)البقرة: 183. ولم يجد الكاتب من يعتمد عليه في دعواه المرفوضة والمنقوضة إلا ما نقله عن نجم الدين الطوفي، الذي أخذوا بعض كلامه، ولم يستوعبوا كل ما قاله، فظلموا الرجل، وظلموا العلم والحقيقة. ذلك أن الطوفي حين تحدث عن تعارض النص والمصلحة لم يقيد النص بأنه (القطعي الثبوت والدلالة) فكلامه عن منطق النصوص، وهذا قد يراد به النصوص الظنية التي تحتمل التخصيص بالمصلحة القطعية. وهو فعلا جعل ذلك من باب التخصيص والبيان لا من باب الإلغاء، أو الافتئات على النص. وقد بينا- من نصوص كلامه نفسه- فيما مضى أن النص القطعي في متنه وسنده، أو في ثبوته ودلالته، يستحيل أن يعارض مصلحة قطعية. رابعا: أما ما ذكره الكاتب حول (الحدود) فقد سقط فيه سقطات لا نهوض له منها، إلا أن يتداركه الله بتوبة منه ورحمة، فقد ظهر فيما كتب قلة معرفته بمقام الله تعالى في علاه، وبالشرع والفقه، وبالقرآن، وبالتاريخ، وبالواقع. أ ـ أما قلة معرفته بالله تعالى، فقد وقف مما شرعه الله من الحدود موقف الحائر المرتاب، وحاول أن يستنجد بشيخه (الطوفي) في قبره، ليخرجه من حيرته وشكه. وكان يكفيه قول الله سبحانه: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) الأحزاب: 36، ليحزم أمره ويعلن كما أعلن المؤمنون دائما: (سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) البقرة: 285. أما أن يتعالم على الله، ويستدرك عليه، ويحسب أنه أعلم منه بأحوال خلقه، وأبر بهم منه جل جلاله، فهذه هي الطامة: (قل أأنتم أعلم أم الله)؟! البقرة: 140 ب ـ وأما ضحالة معرفته بالشرع، فتتمثل في أمرين: أولهما: توهمه أنه قد يأتي بما ينافي مصلحة الخلق والشرع؛ إنما أقيم لمصلحة العباد في المعاش والمعاد، كما حقق علماء الأمة، وكما دل عليه استقراء الأحكام الثابتة بالنصوص الصحيحة الصريحة. وإذا قيل- فيما لا نص فيه- : "حيث توجد المصلحة فثم شرع الله"؛ فأولى أن يقال فيما فيه نص: "حيث يوجد شرع الله فثم المصلحة"! غير أن عقول بعض الناس تقصر عن فهم حقيقة المصلحة فيتصورونها جزئية، فردية، محلية، مادية، آنية، دنيوية. والشرع ينظر إلى المصالح نظرة شمولية: جزئية وكلية، فردية وجماعية، محلية وعالمية، مادية ومعنوية، آنية ومستقبلية، دنيوية وأخروية. ولا يقدر على الإحاطة بهذه الجوانب كلها إلا من أحاط بكل شيء علما، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض. ثانيهما: أنه يريد أن يحيل الثوابت إلى متغيرات. أعني أنه يريد أن يجتهد فيما لا يقبل الاجتهاد، إذ محل الاجتهاد – بالإجماع الي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
دراسة في فقه مقاصد الشريعة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» أحكام المفقود في الشريعة الإسلامية
» الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان و مكان
» بحث و دراسة عن قواعد القانون الدولي الخاص اليمني
» التكييف في تنازع القوانين دراسة في قانون العلاقات الخاصة الدولية
» فسخ العقد في الشريعة الإسلامية

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
مجموعة المحاماة اليمنية  :: القانون اليمني :: المحامين اليمنين-
انتقل الى: