تعيين وسيلة مناسبة للزمان والمكان: ومن الأحكام ما نرى الشريعة الغراء قد عينت له وسيلة مناسبة للزمان والمكان، لتحقيق المقصد الذي أراده الشارع. ولكن الشارع الحكيم لم يقصد أن تكون هذه الوسيلة عالمية أبدية، بحيث تشمل كل مكان وكل زمان، بل راعى بها ظروف المخاطبين في عصر نزول الوحي، فأرشدهم إلى ما يليق بهم. التمييز بين المقاصد والوسائل: وتعيين بعض هذه الوسائل كان من أسباب الخلط والزلل في فهم الشريعة، كما بينا ذلك في كتابنا: (كيف نتعامل مع السنة النبوية) ؛ فإن بعض الناس خلطوا بين المقاصد والأهداف الثابتة التي تسعى النصوص إلى تحقيقها، وبين الوسائل الآنية والبيئية التي تعيّنها أحيانا للوصول إلى المقصد المنشود، فتراهم يركزون كل التركيز على هذه الوسائل، كأنها مقصودة لذاتها، مع أن الذي يتعمق في فهم النصوص وأسرارها يتبين له أن المهم هوالمقصد، وهو الهدف الثابت والدائم، والوسائل قد تتغير بتغير البيئة أو العصر، أو العرف، أو غير ذلك من المؤثرات. إن الوسائل قد تتغير من عصر إلى عصر، ومن بيئة إلى أخرى، بل هي لابد متغيرة، فإذا جاء النص – ولاسيما من الحديث النبوي - على شيء منها، فإنما ذلك لبيان الواقع، لا ليقيدنا بها، ويجمدنا عندها أبد الدهر. وسيلة رباط الخيل: بل لو نص القرآن نفسه على وسيلة مناسبة لمكان معين، وزمان معين، فلا يعني ذلك أن نقف عندها، ولا نفكر في غيرها من الوسائل المتطورة بتطور الزمان والمكان. ألم يقل القرآن الكريم: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوالله وعدوكم وآخرين من دونهم "الأنفال:60. ومع هذا لم يفهم أحد أن المرابطة في وجه الأعداء لا تكون إلا بالخيل التي نص القرآن عليها. بل فهم كل من له عقل يعرف اللغة والشرع أن خيل العصر هي الدبابات والمدرعات، ونحوها من أسلحة العصر. وأن ما ورد في فضل احتباس الخيل، وعظيم الأجر فيه، مثل حديث: " من احتبس فرسا في سبيل الله، إيمانا بالله وتصديقا بوعده، فإن شبعه وريه، وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة. " يعني حسنات. ومثل حديث: " الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر والمغنم" وغيرها من الأحاديث ينبغي أن يطبق على كل وسيلة تستحدث، تقوم مقام الخيل، أوتتفوق عليها بأضعاف مضاعفة. ومثل ذلك ما جاء في فضل " من رمى بسهم في سبيل الله فله كذا وكذا " . فهو ينطبق على الرمي بالسهم أوالبندقية أوالمدفع أوالصاروخ أوأي وسيلة أخرى يخبئها ضمير الغيب. وسيلة الجلباب للمرأة المسلمة: ويدخل في ذلك ما ذكره القرآن من الأمر بإدناء الجلاليب لنساء المؤمنين، وسيلة لتحقيق الستر والاحتشام للمرأة المسلمة، كما قال تعالى في سورة الأحزاب: " يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن " الأحزاب: 59. فهذا الأمر القرآني لا يعني أن الجلابيب وإدناءها – أي إرخاءها – هوالزي الوحيد المشروع للمرأة المسلمة كما نرى ذلك لدى بعض الملتزمات من نساء المسلمين. ذلك أن الزي أمر يخضع لأعراف البلاد، وبيئات أهلها، ويتغير بتغير الزمان، وتنوّع حاجات الناس، ومتطلبات التطور، والشرع لا يمنع ذلك بشرط المحافظة على المقاصد الأساسية التي يطلبها الشرع في الزي وهي أن يستر المسلمة، ولا يكشف عورة يجب سترها، ولا يشف ولا يصف، ولا يفقد المسلمة خصوصيتها. وتحقيق الستر والحشمة للمسلمة لا يكون بصورة واحدة لا نتعداها، فيمكن تحقق ذلك بالجلباب، أو بالمعطف (البالطو) السابغ، أو بالعباءة فوق الثياب، أو بالملاءة التي كان يلبسها النساء في مصر، أو بلباس من قطعتين سابغتين، وهو ما يسمى (التيير)، أوبغير ذلك مما يبتكره الناس من أزياء ما دامت لا تخالف أوامر الشرع. السواك وسيلة لتنظيف الأسنان: وأعتقد أن تعيين السواك لتطهير الأسنان من هذا الباب؛ فالمقصود هو طهارة الفم، حتى يرضى الرب، كما في الحديث: " السواك مطهرة للفم مرضاة للرب" . ولكن هل السواك مقصود لذاته، أو كان هو الوسيلة الملائمة الميسورة في جزيرة العرب فوصف لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤدى الغرض ولا يعسر عليهم؟ ولا بأس أن تتغير هذه الوسيلة في مجتمعات أخرى، لا يتيسر لها هذا العود من (الأراك)، إلى وسيلة يمكن تصنيعها بوفرة تكفى مئات الملايين من الناس، مثل الفرشاة. وقد نص بعض الفقهاء على ذلك: قال في (هداية الراغب) في الفقه الحنبلي: (ويكون العود من أراك وعرجون وزيتون، وغيرها، لا يجرح ولا يضر ولا يتفت. ويكره بما يجرح أويضر أويتفتت. والذي يضر كالرمان والريحان والطرفاء ونحوها. ولا يصيب السنة من استاك بغير عود). ونقل مهذب الكتاب الشيخ عبد الله البسام عن النووي قوله: (بأي شيء استاك مما يزيل التغير حصل الاستياك، كالخرقة، والإصبع وهو مذهب أبي حنيفة لعموم الأدلة. وفي المغني أنه يصيب السنة بقدر ما يحصل من الإنقاء، ولا يترك القليل من السنة للعجز عن أكثرها، وذكر أنه الصحيح) . رؤية الهلال لإثبات الشهر: ومما يمكن أن يدخل في هذا الباب ما جاء في الحديث الصحيح المشهور: " لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له " . وفي لفظ آخر: " فإن غم عليكم، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " . فهنا يمكن للفقيه أن يقول: إن الحديث الشريف أشار إلى مقصد، وعيّن وسيلة. أما المقصد من الحديث فهو واضح بيّن، وهو أن يصوموا رمضان كله، ولا يضيعوا يوما منه في أوله أو في آخره، أو يصوموا يوما من شهر غيره، كشعبان أو شوال، وذلك بإثبات دخول الشهر أو الخروج منه، بوسيلة ممكنة مقدورة لجمهور الناس، لا تكلفهم عنتا ولا حرجا في دينهم. وكانت الرؤية بالأبصار هي الوسيلة السهلة والمقدورة لعامة الناس في ذلك العصر، فلهذا جاء الحديث بتعيينها، لأنه لوكلّفهم بوسيلة أخرى كالحساب الفلكي– والأمة في ذلك الحين لا تكتب ولاتحسب- لأرهقهم من أمرهم عسرا، والله يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر، وقد قال عليه الصلاة والسلام عن نفسه: " إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا، ولكن بعثني معلما ميسرا " . فإذا وجدت وسيلة أخرى أقدر على تحقيق مقصد الحديث، وأبعد عن احتمال الخطأ والوهم والكذب في دخول الشهر، وأصبحت هذه الوسيلة ميسورة غير معسورة، ولم تعد وسيلة صعبة المنال، ولا فوق طاقة الأمة، بعد أن أصبح فيها علماء وخبراء فلكيون، وجيولوجيون، وفيزيائيون متخصصون على المستوى العالمي، وبعد أن بلغ العلم البشري مبلغا مكن الإنسان أن يصعد إلى القمر نفسه، وينزل على سطحه، ويجوس خلال أرضه، ويجلب نماذخ من صخوره وأتربته ! بل يحاول أن يغزو الكواكب الأبعد مثل المريخ، فلماذا نجمد على الوسيلة– هي ليست مقصودة في ذاتها – ونغفل المقصد الذي نشده الحديث؟!. لقد أثبت الحديث دخول الشهر بخبر واحد أو اثنين يَدَّعيان رؤية الهلال بالعين المجردة، حيث كانت هي الوسيلة الممكنة والملائمة لمستوى الأمة، فكيف يتصور أن يرفض وسيلة لا يتطرق إليها الخطأ أو الوهم، أو الكذب؟ وسيلة بلغت درجة اليقين والقطع، ويمكن أن تجتمع عليها أمة الإسلام في شرق الأرض وغربها، وتزيل الخلاف الدائم والمتفاوت في الصوم والإفطار والأعياد، إلى مدى ثلاثة أيام تكون فرقا بين بلد وآخر ، وهو ما لا يعقل ولا يقبل لا بمنطق العلم، ولا بمنطق الدين، ومن المعلوم أن أحدها هوالصواب، والباقي خطأ بلا جدال. إن الأخذ بالحساب الفلكي القطعي اليوم وسيلة لإثبات الشهور، يجب أن يقبل من باب (قياس الأولى) بمعنى أن السنة التي شرعت لنا الأخذ بوسيلة أدنى، لما يحيط بها من الشك والاحتمال - وهى الرؤية – لا ترفض وسيلة أعلى، وأكمل وأوْفى بتحقيق المقصود، والخروج بالأمة من الاختلاف الشديد في تحديد صيامها وفطرها وأضحاها، إلى الوحدة المنشودة في شعائرها وعباداتها، المتصلة بأخص أمور دينها وألصقها بحياتها وكيانها الروحي، وهي وسيلة الحساب القطعي. على أن العلامة المحدث الكبير الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله، نحا بهذه القضية منحىً آخر فقد ذهب إلى إثبات دخول الشهر القمري بالحساب الفلكي، بناء على أن الحكم باعتبار الرؤية في الحديث النبوي معلل بعلة نصّت عليها الأحاديث نفسها، وقد انتفت الآن، فينبغي أن ينتفي معلولها؛ إذ من المقرر أن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، وهذه العلة هي (أمية الأمة) التي لم تكن تكتب ولا تحسُب في عصر البعثة. ومعنى (ولا تحسُب) أي لا تعرف الحساب الفلكي. فإذا تغيرت طبيعة الأمة وأصبحت تكتب وتحسب وجب أن يتغير الحكم. ويحسن بنا أن ننقل هنا عبارة الشيخ بنصها لما فيها من قوة ونصاعة، قال رحمه الله في رسالته (أوائل الشهور العربية): " فمما لا شك فيه أن قبل الإسلام وفى صدر الإسلام، لم يكونوا يعرفون العلوم الفلكية معرفة علمية جازمة، كانوا أمة أميين، لا يكتبون ولا يحسبون، ومن شدا شيئا من ذلك، فإنما يعرف مبادئ أو قشور، عرفها بالملاحظة والتتبع، أو بالسماع والخبر، لم تبن على قواعد رياضية، ولا على براهين قطعية، ترجع إلى مقدمات أولية يقينية، ولذلك جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجع إثبات الشهر في عباداتهم إلى الأمر القطعي المشاهد، الذي هو في مقدور كل واحد منهم، أو في مقدور أكثرهم. وهو رؤية الهلال بالعين المجردة، فإن هذا أحكم وأضبط لمواقيت شعائرهم وعباداتهم، وهوالذي يصل إليه اليقين والثقة مما في استطاعتهم، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. لم يكن مما يوافق حكمة الشارع أن يجعل مناط الإثبات في الأهلّة الحساب والفلك، وهم لا يعرفون شيئا من ذلك في حواضرهم، وكثير منهم بادُون لا تصل إليهم أنباء الحواضر، إلا في فترات متقاربة حينا، ومتباعدة أحيانا، فلوجعله لهم بالحساب والفلك لأعنتهم، ولم يعرفه منهم إلا الشاذ والنادر في البوادي عن سماع- إن وصل إليهم- ولم يعرفه أهل الحواضر إلا تقليدا لبعض أهل الحساب، وأكثرهم أو كلهم من أهل الكتاب. ثم فتح المسلمون الدنيا، وملكوا زمام العلوم، وتوسعوا في كل أفنانها وترجموا علوم الأوائل، ونبغوا فيها وكشفوا كثيرا من خباياها، وحفظوها لمن بعدهم ومنها علوم الفلك والهيئة وحساب النجوم. وكان أكثر الفقهاء والمحدثين لا يعرفون علوم الفلك، أو هم يعرفون بعض مبادئها، وكان بعضهم أو كثير منهم لا يثق بمن يعرفها ولا يطمئن إليه، بل كان بعضهم يرمى المشتغل بها بالزيغ والابتداع، ظنا منه أن هذه العلوم يتوسل بها أهلها إلى ادعاء العلم بالغيب (التنجيم)، وكان بعضهم يدعى ذلك فعلا، فأساء إلى نفسه وإلى علمه. والفقهاء معذورون، ومن كان من الفقهاء والعلماء يعرف هذه العلوم لم يكن بمستطيع أن يحدد موقفها الصحيح بالنسبة إلى الدين والفقه، بل كان يشير إليها على تخوف. هكذا كان شأنهم؛ إذ كانت العلوم الكونية غير ذائعة ذيعان العلوم الدينية وما إليها، ولم تكن قواعدها قطعية الثبوت عند العلماء. وهذه الشريعة الغرّاء السمحة، باقية على الدهر، إلى أن يأذن الله بانتهاء هذه الحياة الدنيا، فهي تشريع لكل أمة ولكل عصر، ولذلك نرى في نصوص الكتاب والسنة إشارات دقيقة لما يستحدث من الشؤون، فإذا جاء مصداقها فُسرت وعُلمت، وإن فسرها المتقدمون على غير حقيقتها. وقد أشير في السنة الصحيحة إلى ما نحن بصدده، فروى البخاري من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنّا أمّة أميّة لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا.. يعنى مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين " ورواه مالك في الموطأ : " الشهر تسعة وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له". وقد أصاب علماؤنا المتقدمون رحمهم الله في تفسير معنى الحديث، وأخطأوا في تأويله، ومن أجمع قول لهم في ذلك: قول الحافظ ابن حجر : " المراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها، ولم يكونوا يعرفون من ذلك إلا النزر اليسير. فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية، لرفع الحرج عنهم في معاناة التسيير، واستمر الحكم في الصوم، ولوحدث بعدهم من يعرف ذلك. بل ظاهر السياق ينفي تعليق الحكم بالحساب أصلا. ويوضحه قوله في الحديث الماضي: (فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين) ولم يقل: فسلوا أهل الحساب. والحكمة فيه كون العدد عند الإغماء يستوي فيه المكلفون، فيرتفع الاختلاف والنزاع عنهم. وقد ذهب قوم إلى الرجوع إلى أهل التسيير في ذلك. وهم الروافض ، ونقل عن بعض الفقهاء موافقتهم، قال الباجي: وإجماع أهل السلف الصالح حجة عليهم. وقال ابن بزيزة: وهومذهب باطل، فقد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم لأنها حدس وتخمين، ليس فيها قطع ولا ظن غالب، مع أنه لو ارتبط الأمر بها لضاق، إذ لا يعرفها إلا القليل ". فهذا التفسير صواب، في أن العبرة بالرؤية لا بالحساب، والتأويل خطأ، في أنه لوحدث من يعرف استمر الحكم في الصوم (أي باعتبار الرؤية وحدها) لأن الأمر باعتماد الرؤية وحدها جاء معللا بعلة منصوصة، وهى أن الأمة " أمية لا تكتب ولا تحسب"، والعلة تدور مع المعلول وجودا وعدما، فإذا خرجت الأمة عن أميتها، وصارت تكتب وتحسب- أعني صارت في مجموعها ممن يعرف هذه العلوم، وأمكن الناس– عامتهم وخاصتهم– أن يصلوا إلى اليقين والقطع في حساب أول الشهر، وأمكن أن يثقوا بهذا الحساب ثقتهم بالرؤية أو أقوى- إذا صار هذا شأنهم في جماعتهم، وزالت علة الأميّة، وجب أن يرجعوا إلى اليقين الثابت، وأن يأخذوا في إثبات الأهلة بالحساب وحده، وأن لا يرجعوا إلى الرؤية إلا حين يستعصي عليهم العلم به، كما إذا كان ناس في بادية أو قرية، لا تصل إليهم الأخبار الصحيحة الثابتة عن أهل الحساب. وإذا وجب الرجوع إلى الحساب وحده بزوال علة منعه، وجب أيضا الرجوع إلى الحساب الحقيقي للأهلة، واطراح إمكان الرؤية وعدم إمكانها، فيكون أول الشهر الحقيقي الليلة التي يغيب فيها الهلال بعد غروب الشمس، ولوبلحظة واحدة " . وما كان قولي هذا بدعا من الأقوال- أن يختلف الحكم باختلاف أحوال المكلفين- فإن هذا في الشريعة كثير، يعرفه أهل العلم وغيرهم. ومن أمثلة ذلك في مسألتنا هذه: أن الحديث "فإن غم عليكم فاقدروا له" ورد بألفاظ أخر، في بعضها " فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " ففسر العلماء الرواية المجملة " فاقدروا له " بالرواية المفسرة " فأكملوا العدة " ولكن إماما عظيما من أئمة الشافعية، بل هو إمامهم في وقته، وهو أبوالعباس أحمد بن عمر بن سريج ، جمع بين الروايتين، بجعلهما في حالتين مختلفتين؛ أي أن قوله: "فاقدروا له " معناه قدروه بحسب المنازل، وأنه خطاب لمن خصه الله بهذا العلم، وأن قوله " فأكملوا العدة " خطاب للعامة . فقولي هذا يكاد ينظر إلى قول ابن سريج، إلا أنه جعله خاصا بما إذا غم الشهر فلم يره الراؤون، وجعل حكم الأخذ بالحساب للأقلين، على ما كان في وقته من قلة عدد العارفين به، وعدم الثقة بقولهم وحسابهم، وبطء وصول الأخبار إلى البلاد الأخرى، إذا ثبت الشهر في بعضها، وأما قولي فإنه يقضى بعموم الأخذ بالحساب الدقيق الموثوق به، وعموم ذلك على الناس، بما يسر في هذه الأيام من سرعة وصول الأخبار وذيوعها. ويبقى الاعتماد على الرؤية للأقل النادر، ممن لا يصل إليه الأخبار، ولا يجد ما يثق به من معرفة الفلك ومنازل الشمس والقمر. ولقد أرى قولي هذا أعدل الأقوال، وأقربها إلى الفقه السليم، وإلى الفهم الصحيح للأحاديث الواردة في هذا الباب ا.هـ. هذا ما كتبه العلامة أحمد شاكر منذ ثمانية وستين سنة هجرية أو ستة وستين عاما شمسية (ذي الحجة 1357 هـ – الموافق يناير 1939 م). ولم يكن علم الفلك في ذلك الوقت قد وصل إلى ما وصل إليه اليوم من وثبات استطاع بها الإنسان أن يغزو الفضاء، ويصعد إلى القمر، ويحاول الوصول إلى ما هو أبعد منه، وانتهى هذا العلم إلى درجة من الدقة، غدا احتمال الخطأ فيها واحدة إلى مائة ألف في الثانية !! كتب هذا الشيخ شاكر، وهو رجل حديث وأثر قبل كل شيء، عاش حياته – رحمه الله- لخدمة الحديث، ونصرة السنة النبوية، فهو رجل سلفي خالص، رجل اتباع لا رجل ابتداع، ولكنه رحمه الله لم يفهم السلفية على أنها جمود على ما قاله من قبلنا السلف، بل السلفية الحق هي أن ننهج نهجهم، ونشرب روحهم، فنجتهد لزمننا كما اجتهدوا لزمنهم، ونعالج واقعنا بعقولنا لا بعقولهم، غير مقيدين إلا بقواطع الشريعة، ومحكمات نصوصها وكليات مقاصدها. هذا وقد قرأت مقالا مطولا في شهر رمضان لعام 1409هـ لأحد المشايخ الفضلاء ، أشار فيه إلى أن الحديث النبوي الصحيح: " نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب " يتضمن نفي الحساب، وإسقاط اعتباره لدى الأمة. ولو صح هذا لكان الحديث دالاً على نفي الكتابة، وإسقاط اعتبارها أيضا، فقد تضمن الحديث أمرين دلل بها على أمية الأمة، هما: الكتابة والحساب. ولم يقل أحد في القديم ولا في الحديث: إن الكتابة أمر مذموم أومرغوب عنه بالنسبة للأمة، بل الكتابة أمر مطلوب، دل عليه القرآن والسنة والإجماع. وأول من بدأ بنشر الكتابة هو النبي صلى الله عليه وسلم، كما هو معلوم من سيرته، وموقفه من أسرى بدر، وقد جعل فداء (الكاتبين) منهم أن يعلم كل واحد منهم عشرة من أبناء المسلمين الكتابة. ومما قيل في هذا الصدد: إن الرسول لم يشرع لنا العمل بالحساب، ولم يأمرنا باعتباره، وإنما أمرنا باعتبار (الرؤية) والأخذ بها في إثبات الشهر. وهذا الكلام فيه شيء من الغلط أوالمغالطة، لأمرين: الأول: إنه لا يعقل أن يأمر الرسول بالاعتداد بالحساب، في وقت كانت فيه الأمة أمية ، لا تكتب ولا تحسب، فشرع لها الوسيلة المناسبة لها، زمانا ومكانا، وهي الرؤية المقدورة لجمهور الناس في عصره. ولكن إذا وجدت وسيلة أدق وأضبط وأبعد عن الغلط والوهم، فليس في السنة ما يمنع اعتبارها. الثاني أن السنة أشارت بالفعل إلى اعتبار الحساب في حالة الغيم وهو ما رواه البخاري في كتاب الصوم من جامعه الصحيح بسلسلته الذهبية المعروفة عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال: " لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له" . وهذا (القدْر) له أو(التقدير) المأمور به، يمكن أن يدخل فيه اعتبار الحساب لمن يحسنه، ويصل به إلى أمر تطمئن الأنفس إلى صحته، وهو ما أصبح في عصرنا في مرتبة القطعيات، كما هو مقدر معلوم لدى كل من عنده أدنى معرفة بعلوم العصر، وإلى أي مدى ارتقى فيها الإنسان الذي علّمه ربه ما لم يكن يعلم. وقد كنت ناديت منذ سنين بأن نأخذ بالحساب الفلكي القطعي- على الأقل في النفي لا في الإثبات -تقليلا للاختلاف الشائع الذي يحدث كل سنة في بدء الصيام وفي عيد الفطر، إلى حد يصل إلى ثلاثة أيام بين بعض البلاد الإسلامية وبعض. ومعنى الأخذ بالحساب في النفي أن نظل على إثبات الهلال بالرؤية وفقا لرأي الأكثرين من أهل الفقه في عصرنا، ولكن إذا نفى الحساب إمكان الرؤية، وقال إنها غير ممكنة- لأن الهلال لم يولد أصلا في أي مكان من العالم الإسلامي، أوولد ولكن لا تمكن رؤيته- كان من الواجب ألا تقبل شهادة الشهود بحال، لأن الواقع - الذي أثبته العلم الرياضي القطعي – يكذبهم. بل في هذه الحالة لا يطلب ترائي الهلال من الناس أصلا، ولا تفتح المحاكم الشرعية، ولا دور الفتوى أو الشئون الدينية أبوابها لمن يريد أن يدلي بشهادته عن رؤية الهلال. هذا ما اقتنعت به، وتحدثت عنه في فتاوى ودروس ومحاضرات وبرامج عدة، ثم شاء الله أن أجده مشروحا مفصلا لأحد كبار فقهاء الشافعية، وهو الإمام تقي الدين السبكي، (ت 756) الذي قالوا عنه إنه بلغ مرتبة الاجتهاد. فقد ذكر السبكي في فتاواه أن الحساب إذا نفى إمكان الرؤية البصرية، فالواجب على القاضي أن يرد شهادة الشهود؛ قال: " لأن الحساب قطعي، والشهادة والخبر ظنيان، والظن لا يعارض القطع، فضلا عن أن يقدم عليه ". وذكر أن من شأن القاضي أن ينظر في شهادة الشاهد عنده، في أي قضية من القضايا، فإن رأى الحس أوالعيان يكذبها ردها ولا كراهة. وقال: "والبينة شرطها أن يكون ما شهدت به ممكنا حسا وعقلا وشرعا، فإذا فرض دلالة الحساب قطعا على عدم الإمكان: استحال القبول شرعا، لاستحالة المشهود به، والشرع لا يأتى بالمستحيلات " . أما شهادة الشهود فتحمل على الوهم أوالغلط أوالكذب. فكيف لوعاش السبكي إلى عصرنا، ورأى من تقدم علم الفلك (أوالهيئة كما كانوا يسمونه) ما أشرنا إلى بعضه؟. وقد ذكر الشيخ شاكر في بحثه أن الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر الشهير في وقته، كان له رأي – حين كان رئيسا للمحكمة العليا الشرعية – مثل رأي السبكي، برد شهادة الشهود إذا نفى الحساب إمكانية الرؤية، قال الشيخ شاكر: (( وكنت أنا وبعض إخواني ممن خالف الأستاذ الأكبر في رأيه، وأنا أصرح الآن أنه كان على صواب، وأزيد عليه: وجوب إثبات الأهلة بالحساب في كل الأحوال، إلا لمن استعصى عليه العلم به)). خطر تحويل المقاصد إلى وسائل أوالعكس: وأريد هنا أن أنبه إلى نقطة في غاية الأهمية وهي محاولة بعضهم أن يحول المقاصد إلى وسائل، ومعنى هذا: أن هذه المقاصد والغايات تغدو قابلة للتغير، بل للإزالة نهائيا، واستبدال غيرها بها. وهذا أظهر ما يكون في العبادات الشعائرية الكبرى مثل: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وهي الأركان العملية التي بني عليها الإسلام، والتى ثبتت بحديث جبريل الشهير، وبحديث: (بني الإسلام على خمس)، وبإجماع الأمة اليقيني المستقر، المرتبط بالعمل المستمر. فمن العوام من يقول: (( المهم أن يطهر قلبك، ويصحو ضميرك، وتخلص لله في عملك، وليس المهم أن تركع أو تسجد، أو تجوع وتعطش، أو أن ترتحل إلى مكة وتطوف حول الكعبة)). ويستدل العوام على ذلك بأن من الناس من يؤدِّي هذه العبادات، ولكنها لا تترك أثراً في نفسه من صلاح واستقامة، ويقولون في هذا: (( يصلي الفرض، وينهب الأرض)). أو: ((لسانه يسبح، ويده تذبح)). ويساعدهم على ذلك بعض الأدباء والشعراء فيقول قائلهم: إذا رام كيدًا بالصلاة مقيمها فتاركها عمدا إلى الله أقرب وهناك من الخواص، بل من كبار الفلاسفة من يذهب مذهب هؤلاء العوام – أوقريبا منه – رغم سعة أُفقه، وعمق تفكيره، ويقول: ((إنما شرعت العبادات لتهذيب أنفس العوام. أما الفلاسفة، فليسوا في حاجة إلى هذه العبادات، لأن نفوسهم تترقى بالمعرفة والتفكر والتأمل)). وهذه نظرة خاطئة من أصحابها، وإن كانوا فلاسفة كبارا، وذلك لعدة أسباب: أولها: أن العبادة حق الخالق المنعم الوهاب على عباده المخلوقين، الذي سخر لهم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنه، ومنها: نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة إعطاء العقل، وتعليم البيان. وثانيها: أن المخلوق لا يستغني عن خالقه طرفة عين، ولا حول ولا قوة له إلا به، سواء كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، أم كان عالما من أكبر علماء الكون، أم فيلسوفا من أعظم الباحثين عن الحكمة أوالمحبين لها. وثالثها: أن هذه الفكرة فيها نظرة استعلائية على الناس، وكأن الفلاسفة خلقوا من ذهب في حين خلق الناس من طين. وكان المفروض في الفلسفة أن تدعو أصحابها إلى التواضع للخلق، ناهيك عن التواضع للخالق. ورابعها: أن الفلسفة – في عالم الواقع – لم تعصم أصحابها من ضلال الفكر، ومن انحراف السلوك، ومن مسايرة الطغاة، ومن اتباع الشهوات، لأن المعرفة وحدها لا تؤدي بالضرورة إلى الفضيلة، كما ظن سقراط، بل لابد معها من الإرادة. هذا، وقد ناقشت هذه الفكرة في ثاني كتاب أدخل به ميدان التأليف بعد (الحلال والحرام) وهوكتاب (العبادة في الإسلام) ولا بأس أن أنقل منه هذه الفقرة: هل العبادة مجرد وسيلة لتهذيب النفس؟ هناك دعوة خبيثة شريرة يروجها بعض الملحدين المستكبرين عن عبادة الله، فتجد هؤلاء يستغلون ما جاء به الدين نفسه من رد العبادة السطحية المرائية التي لا تنفذ إلى القلب، ولا تزكي النفس، ولا تنهى عن فحشاء أو منكر، يستغلون هذا ليقولوا: ((إن الغرض من الأديان وعقائدها وعباداتها: إنما هو إصلاح النفس وتربية الضمير، واستقامة الخلق.. فإذا وصلنا إلى هذه النتيجة بأي وسيلة أخرى كالتهذيب النفسي المجرد، والتربية الأخلاقية المدنية، فلسنا بحاجة إلى العبادة والشعائر والصلوات والمناسك، فإنما هذه وسائل لا غايات، وقد انتهينا إلى الغاية التي يريدها الله منا، فما تشبثنا بالوسيلة؟ وما حاجتنا إليها؟)). هذه هي الدعوة الجاحدة الماكرة التي ذهب إليها بعض المتفلسفين قديما، وبعض المنحرفين حديثا. وهي دعوة باطلة يراد بها باطل. صلاح النفس ثمرة للعبادة الحقة وليس علة له: أما أنها دعوة باطلة؛ فلأن العبادة مطلوبة لذاتها، وغاية في نفسها. بل هي – كما أوضح القرآن – مراد الله من خلق المكلفين إنسا وجنا، بل هي الغاية وراء خلق السماوات والأرض قال تعالى: "الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شئ قدير، وأن الله قد أحاط بكل شئ علما " سورة الطلاق: 12. "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " سورة الذاريات: 56. والمقصود الأول من العبادة – كما ذكرنا – هو أداء حق الله عز وجل. المقصود بالعبادة أن يعرف الإنسان نفسه فقيرا لا حول ولا قوة له إلا بربه، ولا اعتماد له إلا عليه، ولا قيام له بذاته، ويعرف ربه عليا كبيرا، غنيا عن العالمين، "يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هوالغنى الحميد. إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد. وما ذلك على الله بعزيز " فاطر : 15 -17. فإظهار العبودية لرب العالمين، وامتثال أمره سبحانه فيما تعبّد به خلْقَه، هو علة العبادات كلها من صلاة وصيام، وزكاة وحج، وتلاوة وذكر، ودعاء واستغفار، واتباع للشريعة، والتزام بأحكام الحلال والحرام. أما صلاح النفس، وزكاة الضمير، واستقامة الأخلاق، فهي ثمرة لازمة للعبادة الحقة، وليست علة غائية لها، لهذا قال تعالى: " اعبدوا ربكم... لعلكم تتقون "سورة البقرة: 21 وقال: " كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون " سورة البقرة: 183. فالتعبير بـ " لعل " هنا التي تفيد الترجي– دون التعبير بلام التعليل أو" كي " – يفيد أن العبادة، أو الصيام تجعلهم على رجاء التقوى وتعدهم لها. وحتى لو ذكر التعليل صريحا، ما أفاد ذلك ترك العبادة إذا لم تؤد إلى التقوى، وإنما تفيد إعادة النظر في العبادة وإحسانها، حتى تؤتي أكلها من تقوى الله وخشيته. ولوفرضنا أن قلنا لفلاح: ازرع لتحصد؛ فزرع ولم يحصد الحصاد المرجو، لتقصيره في بعض ما كان واجبا عليه أن يرعاه، لم يكن معنى ذلك أن نقول له: أترك الزرع والغرس؛ مع أنه مهمته التي لا وظيفة له غيرها. وكل ما يقال له: ابذل جهدا أكثر، ووف عملك حقه من الإتقان، لتحصل على ثمرة أفضل. ولو أن إنسانا صلى الصلوات الخمس، أو صام رمضان مثلا، ولم يقصد بذلك إلا تزكية نفسه، وتربية خلقه، دون الالتفات إلى حق الله عليه، والقيام بواجب العبودية له جل شأنه؛ ما كانت هذه الصلاة وذاك الصيام إلا عادة من العادات لا يؤبه لها في ميزان الحق، ولا تحظى بذرة من القبول عند الله. مقصد أصلي ومقاصد تابعة للعبادة: ذلك أن للعبادة – كما قال الإمام الشاطبي – مقصدا أصليا، ومقاصد تابعة، فالمقصد الأصلي فيها هو: التوجه إلى الواحد المعبود بغاية الخضوع والطاعة والمحبة له، وإفراده بالقصد إليه في كل حال، ويتبع ذلك: قصد التعبد لنيل الدرجات في الآخرة أو ليكون من أولياء الله تعالى، وما أشبه ذلك. ومن المقاصد التابعة للعبادة: صلاح النفس واكتساب الفضيلة. قال الشاطبي: فالصلاة مثلا، أصل مشروعيتها الخضوع لله سبحانه، بإخلاص التوجه إليه، والانتصاب على قدم الذلة والصغار بين يديه، وتذكير النفس بالذكر له. قال تعالى: " وأقم الصلاة لذكرى" طه: 14. وقال: " إن الصلاة تنهى الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر " سورة العنكبوت: 45. يعني أن اشتمال الصلاة على التذكير بالله أكبر وأعظم من نهيها عن الفحشاء والمنكر، لأن ذكر الله هوالمقصود الأصلي , وفى الحديث " إن المصلي يناجى ربه " . ثم إن لها مقاصد تابعة كالنهي عن الفحشاء والمنكر، والاستراحة إليها من أنكاد الدنيا، كما في الخبر: " أرحنا بها يا بلال " وفى الصحيح " وجعلت قرة عيني في الصلاة " . وإنجاح الحاجات كصلاة الاستخارة وصلاة الحاجة.. وطلب الفوز بالجنة والنجاة من النار، وهي الفائدة العامة الخالصة، وكون المصلي في خفارة الله. وفى الحديث: " من صلّى الصبح لم يزل في ذمة الله " . ونيل أشرف المنازل قال تعالى: "ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا" الإسراء: 79؛ "فأُعطي بقيام الليل المقام المحمود". وكذلك سائر العبادات لها فوائد أخروية وهي العامة، وفوائد دنيوية، وهي كلها تابعة للفائدة الأصلية، وهي الانقياد والخضوع لله" . ولا حرج على المؤمن أن يطلب بعبادته الفوائد الأخروية من الفوز بالجنة والنجاة من النار. فإن هذا داخل تحت معنى الرجاء في مثوبة الله، والخشية من عذابه، وهوضرب من العبودية لرب العالمين، والخوف والرجاء بهذا المعنى لا يقدح في الإخلاص لله. أما الفوائد الدنيوية فلا يجوز أن تكون الباعث الوحيد للعبادة، سواء كانت مادية أو معنوية. وقد أنكر الراسخون من العلماء ما كان يشيع في رحاب التصوف وبين بعض أتباعه ومريديه، من التعبد بقصد تجريد النفس، وتصفيتها من الشواغل والعلائق، لتكون أهلا للاطلاع على عالم الأرواح ورؤية الملائكة، وخوارق العادات، ونيل الكرامات، والحصول على العلم (اللدني) الموهوب من لدن الله.. وما أشبه ذلك. أنكروا هذا وقالوا إنه خروج عن طريق العبادة، وتَخرّص على علم الغيب، ويزيد بأن جعل عبادة الله وسيلة إلى ذلك، وهوأقرب إلى الانقطاع عن العبادة؛ لأن صاحب هذا القصد داخل – بوجه ما – تحت قوله تعالى: " ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هوالخسران المبين " سورة الحج: 11؛ كذلك هذا: إن وصل إلى ما طلب فرح به وصار قصده من التعبد، فقوي في نفسه مقصوده، وضعفت العبادة؛ وإن لم يصل رمى بالعبادة، وربما كذب بنتائج الأعمال التي يهبها الله لعباده المخلصين. وقد روي أن بعض الناس سمع بحديث: " من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه " فتعرض لذلك لينال الحكمة، فلم يفتح له بابها. فبلغت القصة بعض الفضلاء، فقال: "هذا أخلص للحكمة ولم يخلص لله !". والخلاصة أن كل دعوة تغفل المقصود الأصلي في العبادات, وتهيل تراب النسيان عليه، وتشيد بالمقاصد الفرعية التابعة، وتسلط الأضواء عليها وحدها، هي دعوة باطلة ؛ لأنها تضاد القصد الأول من العبادة، بل القصد الأول من الدين، بل القصد الأول من خلق الناس، بل من خلق السماوات والأرض. استكبار عن عبادة الله: وأما ما وراء هذه الدعوة من أغراض خبيثة ؛ فإن أربابها يبطنون إلحاداً وكفراً واستكباراً على الله، واستنكافاً عن عبادته، ويخفون ذلك تحت ستار التحمس للأخلاق المجردة، والفضيلة الذاتية، كما يخفى السم الزعاف في الحلووالدسم. فما أجدر هؤلاء بوعيد الله: "إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين" غافر: 60، " ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا. فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله، وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذاباً أليماً، ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا "النساء: 172 – 173. وما أجدر هؤلاء المتكبرين على الله أن يحرموا من نور الهداية إلى الحق، واستبانة طريق الرشد، فإن الكبر يعمي ويصم، وصدق الله: " سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا. ذلك بأنهم كذّبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين " الأعراف: 146. إن الله تعالى ليس في حاجة إلى عبادة أحد من خلقه، فهو سبحانه غني عن العالمين. وعبّاد الله ليسوا قليلين، فالكون كله يعبد الله بلغة نجهلها نحن البشر: "تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن، وإن من شيء إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم " الإسراء: 44. وحسبنا من العقلاء العابدين: الملائكة في السموات السبع وفي كل مكان: " لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون. يسبحون الليل والنهار لا يفترون " الأنبياء: 19، 20. فأين موضع هؤلاء الذين حسبوا أنفسهم كبراء على عبادة الله؟ " فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون" فصلت: 38. 4- الملائمة بين الثوابت والمتغيرات: ومن مرتكزات المدرسة الوسطية أنها تلائم بين ثوابت الشرع ومتغيرات الزمان والمكان والحال. فأما الثوابت، فلا يمكن المساس بها بحال، وهي (الدائرة المغلقة) التي لا يدخلها الاجتهاد، ولا التجديد ولا التطور. بل هي (المحور) أو(قطب الرحى) الذي يدور حوله المجتهدون والمجددون والمتطورون. فكل ما حوله يتحرك وهوثابت. وهذه الثوابت تتمثل في: - العقائد الأساسية، مثل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهذه الخمسة مذكورة في القرآن وأضافت إليها السنة: الإيمان بالقدر، وهو داخل ضمن دائرة الإيمان بالله. - وأركان الإسلام العملية، مثل: الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا. - وأمهات الفضائل الأخلاقية، مما جاء به القرآن من أخلاق المؤمنين، ومما جاءت به السنة من شعب الإيمان، مثل: العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، والصدق والأمانة، والعفة عن الحرام، والرحمة، والصبر والشكر، والحياء. - وأمهات المحرمات القطعية الظاهرة من القتل والزنا والشذوذ الجنسي وشرب الخمر ولعب الميسر والسرقة، والغصب، والسحر وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، والتولي يوم الزحف، وشهادة الزور، وعقوق الوالدين، وقطع الأرحام، والغيبة والنميمة، والكذب، والعدوان على حرمات الناس. - وكذلك المحرمات الباطنة، مثل: الكبر والغرور والحسد والبغضاء، والرياء والعجب، وحب الدنيا، واتباع الهوى، والشُّح. - وأمهات الأحكام الشرعية القطعية في الأكل والشرب واللباس والزينة، والبيع والشراء، والمعاملات المالية، والنكاح , والطلاق، والوصية، والميراث، والعقوبات الشرعية المقدرة كالحدود والقصاص، والثابتة بالقرآن، ونحوها. فهذه هي الثوابت القطعية، التي لا يجوز تجاوزها بحال، وهي مسورة بسور منيع لا يقبل الاختراق، وهو(القطعية في الثبوت والدلالة) فلا مجال فيها لاجتهاد أو تجديد. ومن المعلوم أن دائرة (الثوابت) محدودة جدا. ولكنها مهمة جدا؛ لأنها هي الدالة على هوية الأمة وذاتيتها وتميزها، وهي التي تحفظ الأمة من الذوبان في غيرها، كما تحفظ عليها وحدتها، وتحميها من التفكك إلى أمم مختلفة، بعد أن جعلها الله أمة وسطا. وما عدا ذلك، من الأحكام الفرعية والجزئية، فهو من المتغيرات، مما ثبت بنصوص ظنية الثبوت أوظنية الدلالة، أوظنيتهما معا. وهذه الدائرة دائرة رحبة، تدخل فيها معظم أحكام الشريعة، وهي قابلة للاجتهاد والتجديد والتطور. والعلمانيون من مدرسة التعطيل يحاولون باستمرار تذويب الحدود، وإزالة الفوارق بين الدائرتين، ليجعلوا الثابت متغيرا، فيتمكنوا من تغيير الشريعة، حيثما يخترقون ثوابتها. والمدرسة الوسطية تقف لهم بالمرصاد. شبهة لأستاذ حقوق: وسأكتفي هنا بالرد على أحد المعبرين عن مدرسة تعطيل النصوص القطعية، ممن ينتسبون إلى القانون ويقومون – للأسف- بتدريسه لأبناء المسلمين الذين وضعتهم الأمة أمانة بين أيديهم، وذلكم هوالدكتور نور فرحات أستاذ القانون وعميد كلية الحقوق بجامعة الزقازيق، الذي يقول في إحدى مقالاته: "لا يختلف علماء الشريعة والباحثون فيها، والمؤرخون لها، على أنها تتضمن ثوابت ومتغيرات، فثوابتها هي تلك المبادئ والأحكام والأفكار التي لا تتغير أو تتبدل بتغير الأمكنة أو تبدل الأزمنة، أما متغيراتها فهي ذلك القدر النسبي من المبادئ والأحكام والأفكار، الذي يتبع أعراف الناس ومعتقداتهم وأحوالهم ودرجة التقدم والمدنية التي يعيشون عليها. فقضية احتواء الشريعة على بعض من الثوابت وبعض من المتغيرات قضية لا خلاف عليها، ولكن الخلاف هوحول محتوى هذه الثوابت وتلك المتغيرات، أي حول ما يعد ثابتا وما يعد متغيرا من أحكام الشريعة ومبادئها. ولا خلاف أيضا على أن أول ثوابت الشريعة وأساسها: ما تعلق منها بالعقائد وبأركان الإسلام وبالعبادات؛ فهذه أحكام أساسية في الإسلام تعد بمثابة الدعائم الكبرى له، لا يقبل من مسلم إلا أن يسلم بها كحقائق كلية لا تتغير بتغير الزمان والمكان، ولا خلاف أيضا أن ما لم يرد فيه نص قطعي الثبوت وقطعي الدلالة، يعتبر من المتغيرات، التي تختلف باختلاف الظروف، التي تمر على المجتمعات الإسلامية، مادام داخلا في إطار المقاصد العامة للشريعة الإسلامية.. ولكن الخلاف هو حول ما ورد فيه من مسائل المعاملات نص شرعي قطعي الثبوت، أي ثابت بمصدره على وجه القطع واليقين، قطعي الدلالة، أي لا شبهة في تأويله: هل يطبق حتى ولو كان فيه إضرار بمصالح المسلمين؟ وهل يؤخذ به حتى لو اختلف السياق التاريخي وقت التطبيق عن السياق التاريخي وقت نزول النص؟ وهل تؤخذ هذه النصوص الأخيرة بالحكمة منها دون تمسك بحرفية تطبيقها عملا بمبدأ (إن الدين يسر لا عسر)، وإن الأحكام مبناها مصالح العباد، لأن الله سبحانه وتعالى ما جعل علينا في الدين من حرج؟ أم أنها واجبة التطبيق دون النظر لما نتصوره عن آثارها الاجتماعية التي قد تبدو لنظرتنا القاصرة أنها غير ملائمة، لأنها تمثل شـرع الله، وشرع الله أولى بالتطبيق من شرع الناس". يقول الكاتب: " في هذه الفئة الأخيرة من الأحكام العملية، التي ثار الخلاف حول ثباتها أوتغيرها، يدخل أغلب ما ينادي بالأخذ به وتطبيقه اليوم دعاة تطبيق الشريعة الإسلامية، وأظهرها مسائل الحدود، وإبطال الربا في المعاملات المالية. إذن يبقى الخلاف محصورا في مسائل الحدود والمعاملات التي أتى بها نص شرعي قطعي الثبوت والدلالة، مثل قوله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا) البقرة: 275، (يمحق الله الربا ويربي الصدقات) البقرة: 276، (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء ما كسبا نكالا من الله) المائدة: 38، (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أويصلبوا..) المائدة: 33. وقوله صلى الله عليه وسلم: " من بدل دينه فاقتلوه"، إلى آخر ذلك من الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة التي تضع حكما قطعيا لأمر من أمور الدنيا يهم معايش المسلمين، وينظم علاقاتهم الاجتماعية". ويتكئ الكاتب هنا – كما اتكأ غيره من كتاب المدرسة المعطلة لنصوص القرآن والسنة- على فقرة من مقولة نجم الدين الطوفي الحنبلي، التي ذكرناها من قبل، والتي أخذوا منها ما يؤيد دعواهم، ويوافق هواهم، وتركوا منها ما يرد عليهم، ويبطل زعمهم. وقد نقل د. فرحات نصا من كلام الطوفي المؤيد له، ثم قال: " ولوقدر لنا أن نخاطب شيخنا الجليل الإمام سليمان الطوفي رحمه الله ورضي عنه وأرضاه، لسألنا سؤال الفتى الحائر لشيخه العالم الوقور: أستاذنا وشيخنا الجليل.. أنت تعلم أن النص الشرعي الموجب لقطع يد السارق قد نزل في مجتمع كان يعتمد في نشاطه الاقتصادي على التجارة، التي لا يزرع مباشرها حقلا ولا يدير آلة في مصنع، فهل ترى أن نبقي على تطبيق النص بعقوبة القطع في مجتمعنا الذي نحن أحوج ما نكون فيه إلى سواعد أبنائه، على استقامتهم وانحرافهم..." أ.هـ. الرد على ما أثاره الكاتب: وقد رددت على الكاتب في بعض كتبي، وبينت تهافت مقولته. وأنا هنا أكتفي ببعض النقاط الأساسية التي تغني عن سواها في بيان فساد كلام الكاتب. أولا: خالف الكاتب القواعد الشرعية القطعية التي أجمع عليها المسلمون في جميع العصور، ومن كل المذاهب، حيث جعل المسائل التي أتى بها (نص شرعي قطعي الثبوت والدلالة) قابلة للخلاف، وهومخالف للإجماع اليقيني، ومخالف لطبيعة هذه النصوص، باعتبارها (قطعية الثبوت والدلالة). فالمفروض أن هذه (القطعيات) هي التي يحتكم إليها عند الخلاف، ويرجع إليها عند التنازع، لا أن تكون هي نفسها موضعا للخلاف، وإلا لما صح وصفها بالقطعية في الجانبين: الثبوت والدلالة معا. ويبدومن الأمثلة التي ذكرها الكاتب أنه حشر نفسه فيما لا يحسنه، وأنه لا يفهم معنى قطعية الثبوت، ولا معنى قطعية الدلالة!. ثانيا: أوهم الكاتب أن نصوص الشريعة القطعية يمكن أن تتعارض مع المصالح الاجتماعية للناس. وهذا لا يمكن أن يقع إلا من باب الوهم والخطأ؛ فمن المقرر المعروف أن القطعيات لا تتعارض أبدا مع المصالح. فإما أن يتوهم غير المصلحة مصلحة، وإما أن يتوهم غير القطعي قطعيا. وقد لمسنا هذا وشاهدناه فيما طالب ويطالب به دعاة العلمانية والتبعية للغرب أوالشرق؛ فمنهم من طالب باسم المصلحة بإباحة البغاء، ومنهم من طالب بإباحة الخمر، ومن طالب بإباحة الربا، ومنهم من طالب بتعطيل فريضة الصيام، ومنهم من طالب بتجميد فريضة الحج، ومنهم من طالب بالتسوية بين الأبناء والبنات في الميراث! كل هذا بدعوى الحرص على المصلحة. مع اليقين أن لا مصلحة في شيء من ذلك على التحقيق- وهؤلاء يزعمون أنهم أعلم بمصالح الناس من رب الناس، أو أنهم أبر بهم ممن خلقهم فسوَّاهم، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة! ثالثا: حاول الكاتب أن يفرق بين العبادات والمعاملات، فجعل كل العبادات من الثوابت، وكل المعاملات من المتغيرات. وهذا ليس بمسلَّم ولا صحيح. فهناك من أحكام العبادات ما ليس من الثوابت، لأنه ثبت بنص غير قطعي الثبوت والدلالة، ولهذا اختلفت المذاهب في كثير من أحكام العبادات، ولا سيما في الزكاة التي هي عبادة وحق مالي (ضريبة) معا. وقد بينا ذلك في كتابنا (فقه الزكاة) وفي سلسلة تيسير الفقه (فقه الطهارة) و(فقه الصيام) وكذلك في كتابنا (مائة سؤال في الحج والعمرة). كما إن من أحكام المعاملات وشؤون الحياة ما هومن الثوابت بيقين، وقد ورد في القرآن والسنة ورود العبادات تماما، وربما بنفس الصيغة، مثل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب علكيم القصاص في القتلى) البقرة: 178. فهذا شأن الأية التي جاءت بعدها بثلاث آيات، وهي قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم)البقرة: 183. ولم يجد الكاتب من يعتمد عليه في دعواه المرفوضة والمنقوضة إلا ما نقله عن نجم الدين الطوفي، الذي أخذوا بعض كلامه، ولم يستوعبوا كل ما قاله، فظلموا الرجل، وظلموا العلم والحقيقة. ذلك أن الطوفي حين تحدث عن تعارض النص والمصلحة لم يقيد النص بأنه (القطعي الثبوت والدلالة) فكلامه عن منطق النصوص، وهذا قد يراد به النصوص الظنية التي تحتمل التخصيص بالمصلحة القطعية. وهو فعلا جعل ذلك من باب التخصيص والبيان لا من باب الإلغاء، أو الافتئات على النص. وقد بينا- من نصوص كلامه نفسه- فيما مضى أن النص القطعي في متنه وسنده، أو في ثبوته ودلالته، يستحيل أن يعارض مصلحة قطعية. رابعا: أما ما ذكره الكاتب حول (الحدود) فقد سقط فيه سقطات لا نهوض له منها، إلا أن يتداركه الله بتوبة منه ورحمة، فقد ظهر فيما كتب قلة معرفته بمقام الله تعالى في علاه، وبالشرع والفقه، وبالقرآن، وبالتاريخ، وبالواقع. أ ـ أما قلة معرفته بالله تعالى، فقد وقف مما شرعه الله من الحدود موقف الحائر المرتاب، وحاول أن يستنجد بشيخه (الطوفي) في قبره، ليخرجه من حيرته وشكه. وكان يكفيه قول الله سبحانه: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) الأحزاب: 36، ليحزم أمره ويعلن كما أعلن المؤمنون دائما: (سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) البقرة: 285. أما أن يتعالم على الله، ويستدرك عليه، ويحسب أنه أعلم منه بأحوال خلقه، وأبر بهم منه جل جلاله، فهذه هي الطامة: (قل أأنتم أعلم أم الله)؟! البقرة: 140 ب ـ وأما ضحالة معرفته بالشرع، فتتمثل في أمرين: أولهما: توهمه أنه قد يأتي بما ينافي مصلحة الخلق والشرع؛ إنما أقيم لمصلحة العباد في المعاش والمعاد، كما حقق علماء الأمة، وكما دل عليه استقراء الأحكام الثابتة بالنصوص الصحيحة الصريحة. وإذا قيل- فيما لا نص فيه- : "حيث توجد المصلحة فثم شرع الله"؛ فأولى أن يقال فيما فيه نص: "حيث يوجد شرع الله فثم المصلحة"! غير أن عقول بعض الناس تقصر عن فهم حقيقة المصلحة فيتصورونها جزئية، فردية، محلية، مادية، آنية، دنيوية. والشرع ينظر إلى المصالح نظرة شمولية: جزئية وكلية، فردية وجماعية، محلية وعالمية، مادية ومعنوية، آنية ومستقبلية، دنيوية وأخروية. ولا يقدر على الإحاطة بهذه الجوانب كلها إلا من أحاط بكل شيء علما، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض. ثانيهما: أنه يريد أن يحيل الثوابت إلى متغيرات. أعني أنه يريد أن يجتهد فيما لا يقبل الاجتهاد، إذ محل الاجتهاد – بالإجماع الي