ذكر أنه علل فيه أحكام الشريعة في المعاملات.[21] ولا أدري إلى الآن ما مصير هذا الكتاب الذي يسيل له لعاب الباحثين في مقاصد الشريعة.ويبدو لي أن العامري وأمثاله من المتكلمين والمتفلسفين قد أسهموا في دفع البحث المقاصدي نحو مرحلة التنظير والتقعيد والتماس المقاصد الكلية. وفي هذا السياق يمكن أن ندرج بعض الإسهامات المعتزلية، حيث يبدو أن المقالات الاعتزالية عن العدل الإلهي، واللطف الإلهي وفعل الصلاح والأصلح، والحسن والقبح الذاتيين، قد شكلت مصدر إغناء للنظر المقاصدي، سواء لدى المعتزلة أنفسهم، أو لدى مخالفيهم ولعل الاستدلالات العقلية المطولة للفخر الرازي على تعليل الشريعة ومصلحيتها، وختمه لها بقوله: "أما المعتزلة فقد صرحوا بحقيقة هذا المقام وكشفوا الغطاء عنه، وقالوا إنه يقبح من الله تعالى فعل القبيح وفعل العبث، بل يجب أن يكون فعله مشتملا على جهة مصلحة وغرض..."[22]لعل ذلك واضح الدلالة على حضور المقالات الاعتزالية ومساهمتها في تأسيس النظر المقاصدي.وفي هذا السياق أضع إمام الحرمين وإسهاماته الفكرية في مجال مقاصد الشريعة، حيث انتقلت إلى التنظير الكلي، بعد مرحلة غنية بالتعليل الجزئي.. إمام الحرمين وإماماته في مقاصد الشريعةإذا تجاوزنا الإمام أبا إسحاق الشاطبي الذي قدر له أن يتربع على عرش مقاصد الشريعة منذ القرن الثامن الهجري(ت790)، فإن العارفين بهذا الشأن يجمعون على أن صاحب الريادة في هذا الفن، هوإمام الحرمين، الجويني.وإذا كان إمام الحرمين لم يفرد مقاصد الشريعة بمؤلف خاص أو شبه خاص، كما فعل علماء آخرون قبله وبعده، فإن مؤلفاته جاءت مشحونة بقضايا مقاصد الشريعة، كلياتها وجزيئاتها. وجاءت شاهدة على نظر مقاصدي ثاقب وفكر مقاصدي ناضج.وتلك هي الإمامة التي ائتم به فيها كبار المقاصديين من بعده، فكرروا ما قرره، وأتموا ما بدأه، وصاروا على نهجه ونسجوا على منواله. إسهامات تأسيسية لإمام الحرمين في الفكر المقاصديالأعمال التأسيسية مهما تكن قلتها ومحدوديتها، ومهما يكن من قصورها وعدم كفايتها، ومهما يرد عليها من ملاحظات واستدراكات، فإنها تظل أعمالا عظيمة لا يأتي بها إلا العظماء المبدعون. ومن هؤلاء إمام الحرمين. وفي ما يلي بعض إسهاماته المقاصدية التي تمتاز بالسبق والابتكار في هذا المضمار:1-الضروريات والحاجيات لقد أصبح من المعتاد تقسيم المقاصد الشرعية ومصالحها المرعية إلى ضروريات، وحاجيات، وتحسينات. كما أصبح من المعتاد اللجوء والاحتكام إلى هذا التقسيم لتمييز مراتب المصالح ومعرفة ما يقدم وما يؤخر، وما يعتبر فيه الترخيص وما لا يعتبر، وما يمكن تفويته وما لا يمكن...إلى غير ذلك مما يترتب على هذا التقسيم من قواعد وتطبيقات أصولية وفقهية...هذا التقسيم نجده ونجد أساسه-أول ما نجد-عند إمام الحرمين، وذلك في باب تقاسيم العلل والأصول من كتاب القياس في (البرهان)؛ فبعد أن عرض آراء العلماء فيما يعلل وما لا يعلل من أحكام الشرع، وذكر نماذج لتعليلاتهم، وأثر كل ذلك في إجراء الأقيسة في الأحكام...قال:"هذا الذي ذكره هؤلاء أصول الشريعة. ونحن نقسمها خمسة أقسام..."[23]وظاهر من عبارته الإشعار بأن هذا التقسيم من وضعه، وأنه غير مسبوق به. وقبل أن أذكر تقسيمه للعلل والمقاصد الشرعية، أشير إلى أنه أتى به ليبين من خلاله ما يصح إجراء القياس فيه وما لا يصح. أما الأقسام الخمسة للعلل –أوالتعليلات- الشرعية، فهي:القسم الأول: ما يتعلق بالضرورات، مثل القصاص، فهو معلل بحفظ الدماء المعصومة، والزجر عن التهجم عليها.[24]القسم الثاني: ما يتعلق بالحاجة العامة، ولا ينتهي إلى حد الضرورة. وقد مثله بالإجارات بين الناس.[25]القسم الثالث: ما ليس ضروريا ولا حاجيا حاجة عامة، وإنما هو من قبيل التحلي بالمكرمات، والتخلي عن نقائضها. وقد مثله بالطهارات[26]القسم الرابع: وهو أيضا لا يتعلق بحاجة ولا ضرورة، ولكنه دون الثالث، بحيث ينحصر في المندوبات[27].
فهو- في الأصل- كالضرب الثالث، الذي انتجز الفراغ منه، في أن الغرض المخيل هو الاستحثاث على مكرمة لم يرد الأمر بإيجابها، بل ورد الأمر بالندب إليها..."[28]القسم الخامس: هو ما لا يظهر له تعليل واضح ولا مقصد محدد، لا من باب الضرورات، ولا من باب الحاجات، ولا من باب المكرمات، قال:"وهذا يندر تصويره جدا"[29] أي أن هذا الصنف نادر جدا في الشريعة؛ لأن كل أحكامها-تقريبا- لها مقاصد واضحة وفوائد ملموسة. ولهذا فإنه رغم تمثيله هذا القسم الذي لا يعلل، بالعبادات البدنية المحضة، التي"لا يتعلق بها أغراض دفعية ولا نفعية"[30]، أي لا يظهر فيها درء مفسدة ولا جلب مصلحة، فإنه سرعان ما نبه على أن هذه العبادات يمكن تعليلها تعليلا إجماليا، وهو أنها تمرن العباد على الانقياد لله تعالى، وتجديد العهد بذكره، مما ينتج النهي عن الفحشاء والمنكر، ويخفف في المغالاة في اتباع مطالب الدنيا، ويذكر الاستعداد للآخرة. قال: "فهذه أمور كلية، لا ننكر على الجملة أنها غرض الشارع في التعبد بالعبادات البدنية. وقد أشعر بذلك بنصوص من القرآن العظيم في مثل قوله تعالى: "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر"
[31](العنكبوت:45)فلم يبق إذن إلا بعض أحكامها التفصيلية، مما يعسر تعليله فيتعذر القياس عليه، كهيئات الصلاة، وأعداد ركعاتها، وكتحديد شهر الصوم ووقته...[32]ولنعد إلى التقسيم الخماسي للعلل والمقاصد الشرعية، فقد سبق التنبيه- واعتمادا على كلام الإمام نفسه- على أن القسمين الثالث والرابع، يمكن دمجهما في قسم واحد. ويؤكد هذا أنه عندما ذكر القسم الخامس نص على أنه لا يدخل لا في الضروريات، ولا في الحاجيات، ولا في المحاسن. فحصر الأقسام الأخرى في ثلاث.ثم إذا جئنا إلى هذا القسم الخامس، نجد أنه قد قسمه –ضمنيا- إلى ما يعلل تعليلا إجماليا وإلى ما لا تعليل له، فيجب إلحاقه بأحد الأقسام الثلاثة، فهو إما من الضروريات، وإما من الحاجيات، وإما من المحاسن. وما تعذر تعليله، فهو ليس مما نحن فيه، أي تقسيم العلل. فلا يبقى عند التحقيق إلا ثلاثة أقسام...والذي أريد أن أخلص إليه من هذا هو أن إمام الحرمين رحمه الله، هو صاحب الفضل والسبق في التقسيم الثلاثي لمقاصد الشارع (الضروريات-الحاجيات-التحسينيات)، و هوالتقسيم الذي أصبح من أسس الكلام في المصالح الشرعية. 2-الضروريات الخمسلقد دأب العلماء عامة- والمقاصديون منهم خاصة- على اعتبار الضروريات الخمس (الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال) أسس الشريعة ومصالحها الكلية. وقد تحددت هذه الضروريات وانحصرت واستقرت على هذا النحو منذ الإمام الغزالي، وأصبحت منذ ئذ أسسا من أسس أي كلام في مقاصد الشريعة.وإمام الحرمين هو أحد السباقين إلى إدراكها والتنبيه عليها. ومن إشارته في هذه المسألة ما جاء في قوله:"فالشريعة متضمنها مأمور به، ومنهي عنه، ومباح.فأما المأمور به فمعظمه العبادات... وأما المنهيات فأثبت الشرع في الموبقات منها زواجر...وبالجملة: الدم معصوم بالقصاص... والفروج معصومة بالحدود... والأموال معصومة عن السراق بالقطع..."[33]فهو في هذا النص قد نبه على حفظ الدين بالعبادات، وعلى حفظ النفس بالقصاص، وعلى حفظ النسل والعرض بحد الزنا وحد القذف، وعلى حفظ المال بالقطع. وبهذا يأتي الجويني في الدرجة الثانية بعد العامري- زمنا ووضوحا-في تحديد هذه الضروريات والتنبيه على أساسها.إن ما عرفته هذه الضروريات من تتميم وتهذيب، ومن تأصيل وتفصيل، على يد اللاحقين-الغزالي فمن بعده-مهما كانت قيمته يبقى مدينا للرواد الأوائل-العامري والجويني، وربما غيرهما- الذين تفتقت فطنتهم ونباهتهم عن هذه الملاحظات والاستنتاجات الرائدة.3-وضع المصطلحات المقاصدية وإغناؤهاابتكار المصطلحات وضبطها وتطويعها هو نوع من الأعمال التأسيسية في أي علم من العلوم؛ ذلك أن"العلم، من حيث كونه(علما)ينبني على ثلاثة أركان هي: المصطلح، والقاعدة، والمنهج. والركنان الأخيران ينطلقان من المصطلح ويعودان إليه...إذ أول ما يولد-عادة-من العلم هو(المفهوم)، أي (المعنى العلمي البسيط)الذي يشكل مضمون المصطلح في مرحلته الجنينية... إن الحاجة العلمية تدعو إلى وجود المفهوم، ثم يتردد ويتداول بلفظ، أوعدة ألفاظ، إلى أن يستقر في مصطلح ما؛فيسجل بذلك أول بداية العلم"[34]وإمام الحرمين، بعقليته التأسيسية الريادية، صاحب عطاء وغناء في مجال المصطلحات وضعا وتطويرا.ومن ذلك المصطلحات الآتية:تقدم قبل قليل استعماله لمصطلحي: الضرورات والحاجات. كما نجده يتحدث عن "الحاجة العامة"أو"حاجة الجنس"في مقابل "حاجة الآحاد"، أي الأفراد[35]. ولست أدري هل سبقه سابق إلى تقرير قاعدة"الحاجة تنزل منزلة الضرورة"؟وعلى كل فهو يقول:"البيع مستنده الضرورة، أو الحاجة النازلة منزلة الضرورة"[36] ويقول: "الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة..."[37] وأنا أورد هذه القاعدة الآن بالدرجة الأولى من حيث الأوعية الاصطلاحية التي تحملها.وبما أن مصطلح الحاجة- خلافا لمصطلح الضرورة- يكتنفه الغموض والإبهام، فقد عمل على ضبطه وتحديد مضمونه، خاصة وأن الأمر يتعلق بتنزيل الحاجة منزلة الضرورة في الترخصات واستباحة المحرمات. قال رحمه الله: "فإذا تقرر أن المرعي الحاجة، فإن الحاجة لفظة مبهمة لا يضبط فيها قول. والمقدار الذي بان أن الضرورة وخوف الروح (أي خوف الموت) ليس مشروطا فيما نحن فيه كما يشترط في تفاصيل الشرع في الآحاد (أي في حق الأفراد) في إباحة الميتة وطعام الغير. وليس من الممكن أن نأتي بعبارة عن الحاجة تضبطها ضبط التخصيص والتنصيص، كما تتميز المسميات والملقبات بذكر أسمائها وألقابها، ولكن أقصى الإمكان في ذلك من البيان تقريب وحسن ترتيب ينبه عن الغرض..".[38]والحقيقة أنه ضبط هذا المصطلح ضبطا علميا محكما، أكثر ضبطا وإحكاما حتى من الذين جاؤوا بعده كالغزالي والشاطبي، فقال:"لسنا نعني بالحاجة تشوق الناس إلى الطعام وتشوفها إليه، فرب مشته لشيء لا يضره الانكفاف عنه، فلا معتبر بالتشهي والتشوف.فالمرعي إذا دفع الضرر واستمرار الناس على ما يقيم قواهم...فاقتطعنا من الإبهام التشوف والتشهي المحض، من غير فرض ضرار من الانكفاف عن الطعام، وقد لا يستعقب ضعفا ووهنا عاجزا عن التقلب في الحال، ولكن إذا تكرر الصبر على ذلك الحد من الجوع أورث ضعفا، فلا نكلف هذا الضرب من الامتناع. ويتحصل من مجموع ما نفينا وأثبتنا أن الناس يأخدون ما لو تركوه لتضرروا في الحال أو المآل..."[39]وحتى مصطلح" مقاصد الشريعة"- بهذين اللفظين، أو بهذا اللقب الإضافي- فإن أقدم استعمال له أعرفه وأذكره هو استعمال الجويني.ففي رده على أبي حنيفة الذي يجوز الإحرام في الصلاة بغير لفظ التكبير ويرى أن تخصيص الإحرام بلفظ(الله أكبر)ليس بلازم قال:"فمن قال والحالة هذه:لا أثر لهذا الاختصاص، وإنما هو أمر وفاقي، فقد نادى على نفسه بالجهل بمقاصد الشريعة"[40]وفي بيان مدى حاجة الدنيا إلى الدين، وحاجة الدين إلى الدنيا يقول:"ولكن الله تعالى فطر الجبلات على التشوف للشهوات، وناط بقاء المكلفين ببلغة وسداد، فتعلقت التكاليف من هذه الجملة بالمحافظة على تمهيل المطالب والمكاسب وتمييز الحلال من الحرام وتهذيب مسالك الأحكام على فرق الأنام، فجرت الدنيا من الدين مجرى القوام والنظام من الذرائع إلى تحصيل مقاصد الشرائع, ومن العبادات الرائقة الفائقة المرضية، في الإعراب عن المقاصد الكلية في القضايا الشرعية"...[41] كما أن الإمام استعمل بغزارة عددا من المصطلحات المعبرة عن مقاصد الشريعة, مثل:"مباغي الشرع ومقاصده"[42] ومثل: المعاني،[43] والكليات, والمصالح العامة.[44] ومن التعابير اللطيفة الجامعة التي استعملها للدلالة على مجمل مقاصد الشريعة عبارة "الأغراض الدفعية والنفعية:[45]. فهي تفيد أن مقاصد الشريعة ذات وجهين: دفع ونفع.وهوالمعنى الذي عبر عنه فيما بعد بعبارة "جلب المصالح ودرء المفاسد، وعبر عنه الجويني نفسه بقوله:"طلب ما لم يحصل، وحفظ ما حصل"[46]. وهو الذي تبناه الغزالي وعبر عنه بقوله:" أما المقصود، فينقسم إلى ديني ودنيوي. وكل واحد ينقسم إلى تحصيل وإبقاء. وقد يعبر عن التحصيل بجلب المنفعة، وقد يعبر عن الإبقاء بدفع المضرة..."[47]ومن المصطلحات البارزة التي أكثر إمام الحرمين من ذكرها وتنويع استعمالها: مصطلح "الاستصلاح". وهووعاء كبير من أوعية الفكر المقاصدي؛ فهو معبر عما تقدم ذكره من جلب المصالح ودرء المفاسد، وهما جماع مقاصد الشريعة وأغراضها. كما يعبر به عن مراعاة المصالح المرسلة وإعمالها واعتمادها في الاجتهاد والتشريع، كما يعبر به عن ذلك المنحى الإصلاحي العام للإسلام وشريعته، ولكافة الرسالات والشرائع المنزلة، كما جاء على لسان شعيب عليه السلام
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت)[48] وعلى لسان موسى خطابا لأخيه هارون عليهما السلام
وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين)[49]وإمام الحرمين عبر عن هذه المعاني كلها بهذا المصطلح(الاستصلاح)؛ فهويقرر أن "الشريعة مبنية على الاستصلاح "[50] ويرى أن هذا الأساس الاستصلاحي للشريعة واسع وشامل ومطرد في أحكامها وتفاصيلها إلى درجة أن "تفاصيل الاستصلاحات لا تطلع عليها العقول"[51]. ولذلك ليس لأحد أن يضاهي الشريعة في استصلاحاتها ويرخي العنان لنفسه ولعقله في حرية الاستصلاح، إذ ليس أحد معصوما كعصمة الشريعة، ولذلك فهويرفض"الاسترسال في جميع وجوه الاستصلاح ومسالك الاستصواب"[52]؛ فهو وإن كان يقر ويقرر –مثلا-أن "الغرض من نصب الإمام استصلاح الأمة"[53] فهو ينكر على الحكام تماديهم في ممارسة كل ما يرونه استصلاحا على غير هدى من الله ولا سند من شرعه.هذه بعض الأمثلة من الاستعمالات الكثيرة والمتنوعة لمصطلح الاستصلاح عند إمام الحرمين. واستعماله لهذا المصطلح من أقدم الاستعمالات المعروفة إلى الآن، حتى إن بعض الدارسين اعتقدوا أنه أول من استعمله.وهذا ما مال إليه كل من الشيخ الخضري، وبعده الدكتور عبد العظيم الديب الذي يقول:"ولعل إمام الحرمين هوأول من سمى المصلحة المرسلة استصلاحا، فإن الخضري رحمه الله في كتابه(أصول الفقه)-303- يقول:"يسميه الغزالي الاستصلاح"أي:يرى أن أول من سماه بذلك الغزالي.ولما كان إمام الحرمين شيخ الغزالي، ووجدناه يسميه بذلك، فلا شك أن الغزالي أخذ هذا عن إمام الحرمين."[54]والحقيقة أن مصطلح الاستصلاح مستعمل قبل الجويني عند القاضي عبد الجبار المعتزلي المتوفي سنة415هـ، فقد جاء في كتابه(المغني في أبواب التوحيد والعدل):"فصل في معنى وصف اللطف بأنه صلاح ومصلحة واستصلاح..."ثم قال:"فأما وصفه بأنه استصلاح، فإنه يفيد أن غيره قصد بفعله صلاحه...وعلى هذا الوجه نصف القديم تعالى بأنه قد استصلح المكلف بالألطاف وغيرها..."[55]وقبلهما معا ورد استعماله كثيرا عند القفال الكبير كما تقدم في الفقرة المخصصة له. بعد الجويني وقبل الشاطبيالكتابات عن مقاصد الشريعة فيما بعد الجويني، وإلى الشاطبي، جعلت هذه المرحلة مكشوفة ومضاءة بدرجة جيدة بفضل الأبحاث والدراسات الكثيرة التي أنجزت حول هذه الحقبة وأعلامها، ابتداء بأبي حامد الغزالي وانتهاء بأبي إسحاق الشاطبي، مرورا بأبي الوليد بن رشد، وأبي بكر بن العربي، وفخر الدين الرازي، وسيف الدين الآمدي، وعز الدين بن عبد السلام، وشهاب الدين القرافي، ونجم الدين الطوفي، وابن تيمية، وابن قيم الجوزية. فهؤلاء جميعا نشرت وذاعت ودرست كتبهم وأفكارهم وإسهاماتهم المقاصدية، على ما بينها من تفاوت كبير، كما وكيفا. ولعل في القائمة البيبليوغرافيه التي أعدها الدكتور محمد كمال إمام ونشرها في العدد الخاص من مجلة (المسلم المعاصر) بيانا وافيا لذلك. ولهذا لا أطيل في الحديث عن هذه الحقبة التي تمتد أربعة قرون، وأقتصر منها على تسجيل النقط الآتية:- للإمام أبي حامد الغزالي ت505 مكانة عالية وتأثير بليغ في مسار الفكر المقاصدي منذ زمنه وإلى الآن، وله إبداعاته وسوابقه في التطوير والارتقاء بهذا الفكر. ولو أن معظم ذلك نجد أصوله وبذوره عند شيخه الإمام الجويني.وقد استقصى الباحث المغربي الأستاذ محمد عبدو عناصر الجدة والسبق في الفكر المقاصدي لأبي حامد، مما تكرر لاحقا عند الشاطبي، فذكر من ذلك[56]:1- تقسيم المصالح إلى ضرورية وحاجية وتحسينية.2- مقاصد الشرع يتم حفظها من جهتي الوجود والعدم (الحفظ الوجودي والحفظ العدمي).
3-المصالح التحسينية تنعطف على الضرورية والحاجية انعطاف التتمة والتكملة
4- فقدان المصالح التحسينية لا يلزم منه فقدان الضرورية ولا الحاجية.
5- كل قسم من الأقسام الثلاثة له أذياله ومكملاته.
6- المصالح المكملة لغيرها إنما تعتبر بشرط ألا تعود على أصلها بالإبطال. 7- قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقا لقصد الشارع في التشريع.ومن أهم سوابق الإمام الغزالي كذلك، ما قرره وكرره من كون المصالح الضرورية(الضروريات الخمس) محفوظة في كافة الشرائع المنزلة، وأنه "يستحيل أن لا تشتمل عليها ملة من الملل وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق. ولذلك لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر، والقتل، والزنا، والسرقة، شرب المسكر"[57]إذا كان الإمام الغزالي قد تحدث كثيرا عن الضروريات الخمس، واشتهرت على يده تسميتها وأمثلتها ومكملاتها، وكذلك ترتيبها، على هذا النحو: (الدين والنفس، والعقل، والنسل، والمال) فإن سيف الدين الآمري قد يكون الأول الذي توقف عند مسألة ترتيب الضروريات الخمس، فناقش وعلل وعدل. وقد اختار تقديم النسل على العقل،[58] خلافا للغزالي الذي دأب على تقديم العقل على النسل.أما بقية الأصوليين التقليديين من مختلف المذاهب، فلا نكاد نجد عندهم شيئا يستحق التسجيل والذكر. بل نجد مصنفاتهم -على العموم- تمثل تراجعا ونزولا مستمرا نحوالصورية والعقم والانحطاط عن المستوى الأصولي والمقاصدي الذي وصله الجويني والغزالي.لكن بجانب هذا الخط الأصولي التقليدي، وربما خروجا عليه، نجد في هذه الحقبة عددا من فطاحل العلماء المتحررين المجددين. فبعض هؤلاء استمر معهم النمو والازدهار للفكر المقاصدي تنظيرا وتطبيقا، حتى وصل الأمر إلى الشاطبي.وأذكر من هؤلاء على وجه الخصوص:ابن عبد السلام وتلميذه القرافي، ابن تيمية وتلميذه ابن القيم.ومن بين هؤلاء، يتميز الإمام عز الدين بن عبد السلام، بشيء لم يفعله أحد قبله ولا بعده في العصور السابقة، وهو تناوله المفصل والمعمق-النظري والتطبيقي- لموضوع المصالح والمفاسد، وذلك في كتابه"قواعد الأحكام في مصالح الأنام"، وهومحقق مطبوع متداول، فلا أطيل في التعريف به ولا في تحليل مضامينه.[59] وفي هذه الحقبة أيضا نجد تصنيف كتابا آخر على النمط الفقهي التعليلي، وهو(محاسن الإسلام وشرائع الإاسلام)للفقيه الحنفي أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمان البخاري(ت546)، وهو يشبه-اسما ومضمونا-كتاب (محاسن الشريعة) للقفال الكبير، إلا أنه متأخر عنه زمنا ومستوى. الشاطبي مؤسس علم المقاصدإذا كان الإمام محمد بن إدريس الشافعي قد اعتبر مؤسس"علم أصول الفقه"، بالرغم من أنه لم يدع ذلك؛ بل مات، رحمه الله، وهولا يعرف حتى مصطلح"علم أصول الفقه"فكذلك الشأن مع إمامنا أبي اسحاق الشاطبي الغرناطي، الذي اعتبره الكثيرون مؤسس"علم مقاصد الشريعة"بالرغم من أنه لم يدع ذلك، ولا استعمل هذا اللقب.الإمام الشاطبي أصبح رديفا لمقاصد الشريعة، فلا يكاد يذكر إلا ذكرت معه، ولا تذكر إلا ذكر معها.وقد طارت شهرته وذاع صيته، وكتب عنه في زمننا من المؤلفات ومن الأبحاث والمقالات ما لا يكاد يحصى. فلذلك ليس من اللائق أن أطيل وأفصل في الحديث عنه وعن مكانته في الشريعة، لاسيما وأنني أحد الذين كتبوا كتبا عن الشاطبي.[60]ولكن هذا لا يمنع من ذكر رؤوس بعض المسائل-المسألة الأولى ما جاء في عنوان هذه الفقرة، وهو تأسيس"علم مقاصد الشريعة".فكل الذين يؤمنون بانبثاق هذا العلم وتميزه، أو يؤمنون بضرورة ذلك وفائدته، أو أنه آخذ طريقه نحو التبلور والاستقلال، كل هؤلاء يعتبرون أن عمل الشاطبي كان عملا تأسيسيا في هذا المضمار.وقد اشتهر العلامة محمد الطاهر ابن عاشور بأنه أول من دعا إلى تأسيس علم جديد، يستقل عن علم أصول الفقه ويتكامل معه، هو(علم مقاصد الشريعة). ولكنه هو نفسه يردف قائلا بعد دعوته تلك:"والرجل الفذ الذي أفرد هذا الفن بالتدوين هو أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي المالكي، إذ عني بإبرازه في القسم الثاني من كتابه المسمى(عنوان التعريف بأصول التكليف في أصول الفقه)[61]، وعنون ذلك القسم بكتاب المقاصد"[62]-المسألة الثانية: هي أن الشاطبي جمع ما تفرق عند غيره وما تراكم وتطور عند سابقيه، لكن جمعه هذا كان عملا بنائيا منسقا، مع مزيد من البيان والتتميم، ليخرج ذلك كله على شكل نظرية متكاملة في مقاصد الشريعة.-المسألة الثالثة: مما هيأ لاكتمال هذا البناء على يد الشاطبي، إلى حد أصبحنا معه اليوم نتحدث-متفقين أو مختلفين- عن"علم المقاصد"، كونه افتتح الكلام في أبواب جديدة تتعلق بمقاصد الشريعة، منها: مقاصد المكلف في علاقتها بمقاصد الشارع، ومنها علاقة المقاصد بالاجتهاد ومدى توقفه عليها، ومنها طرق إثبات المقاصد. فهو في هذه المباحث كلها مبتكر ومجدد ومؤسس.[63]-المسألة الرابعة: إن الاستفادة من عمل الشاطبي لم تحصل لا في زمن الشاطبي ولا في القرون التي أعقبته، لأن الزمن الإسلامي كان قد توقف وتجمد، إلى أن تحرك من جديد في غصون قرن مضى، يزيد أو ينقص... ابن عاشور يستأنف البناء منذ أن تعرفت على التراث العلمي للعلامة محمد الطاهر ابن عاشور، واستوعبت قيمته وأهميته، وأنا أعرب عن أسفي لما أصابه من حيف وإهمال. وكثيرا ما كنت أقول: "ماذا لوكان ابن عاشور مصريا أوشاميا أوسعوديا"؟فالانتماء التونسي والمغربي الإفريقي عموما، هو نفسه جزء من المشكلة، فهي مشكلة تاريخية جغرافية قديمة.ولكن الجزء الأكبر في المشكلة هو ما نجم عن الانقلاب الكبير والشامل الذي عرفته تونس في مرحلة ما بعد الاستقلال، وخاصة في الوضع الديني والثقافي والفكري، الذي لم يبق فيه مكان ولا مكانة لابن عاشور وأمثاله.ولعل أول كتاب كامل يصدر حول ابن عاشور، هو الذي أصدره المعهد العالمي للفكر الإسلامي، وهو(نظرية المقاصد عند الإمام ابن عاشور) للدكتور إسماعيل الحسني (صدر سنة 1995)، ثم تبعه كتاب الدكتور بلقاسم الغالي(شيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر ابن عاشور)(نشر في لبنان سنة 1996) وفي السنة الماضية(2004) صدرت من لندن طبعة جديدة مع دراسة جيدة، لكتاب ابن عاشور(مقاصد الشريعة الإسلامية) للأستاذ محمد الطاهر الميساوي.وأخيرا صدر أهم عمل علمي عن ابن عاشور، وهو لتلميذه العلامة محمد الحبيب ابن الخوجة، وللأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي. وقد طبع على نفقة أمير دولة قطر.هذا الكتاب يحمل اسم(محمد الطاهر ابن عاشور وكتابه مقاصد الشريعة الإسلامية) وهو في ثلاثة مجلدات ضخمة، هي:-الجزء الأول: شيخ الإسلام محمد الطاهر ابن عاشور.-الجزء الثاني: بين علمي أصول الفقه والمقاصد.-الجزء الثالث: مقاصد الشريعة الإسلامية، لشيخ الإسلام، الإمام الأكبر محمد الطاهر ابن عاشور(تحقيق ومراجعة).هذه المؤلفات، فضلا عن أبحاث ومقالات وفقرات أخرى، قد جعلت الشيخ ابن عاشور يتبوأ الآن شيئا فشيئا مكانته، ويصبح أكثر فأكثر معروفا هو وكتبه، وخاصة منها كتابه(مقاصد الشريعة الإسلامية). فلهذه الأسباب، أجدني، مرة أخرى، في غنى عن التطويل والتفصيل في الحديث عنه، وأقتصر على العناصر الأكثر جدارة بالذكر في هذا السياق.1- عمل ابن عاشور في مجال الدراسات المقاصدية شبيه بعمل الشاطبي، من حيث طابعه التأسيسي، فهو-كما صرح بنفسه-يقتفي أثره، ويبني على ما أسسه، ثم يضيف ما عنده. ولقد أحسن الأستاذ محمد الطاهر الميساوي حين وصف ابن عاشور بأنه "المعلم الثاني" بعد "المعلم الأول" الذي هو الشاطبي[64].فابن عاشور واصل الكلام في أهمية المقاصد ومدى احتياج الفقه والاجتهاد الفقهي إليها.كما واصل الكلام في طرق إثبات المقاصد،.بالإضافة إلى مزيد من التعمق في القضايا المألوفة، كالمصالح وأقسامها...2-من أبرز ما أضافه ابن عاشور, هوذلك النوع من المقاصد الذي خصص له القسم الثالث من كتابه، وسماه"مقاصد التشريع الخاصة بأنوع المعاملات "، وأدرج تحته:-مقاصد أحكام العائلة.-مقاصد التصرفات المالية.-مقاصد الشريعة في المعاملات المنعقدة على الأبدان-مقاصد أحكام القضاء والشهادة- المقصد من العقوبات لقد كان الكلام في مقاصد الشريعة قبل ابن عاشور ينصرف إما إلى المقاصد العامة، وهي التي خصص لها القسم الثاني، وسماها "مقاصد التشريع العامة"، وإما إلى مقاصد الأحكام التفصيلية، أي المقاصد الجزئية، فلما جاء ابن عاشور كشف عن مستوى آخر من المقاصد، يتوسط بين العامة والجزئية، وهو ما يتعلق بمجال تشريعي معين، كالمجالات التي ذكرها.3- ابن عاشور هو أول من نادى صراحة بتأسيس علم جديد هو "علم المقاصد"[65]، ويبدو أنه كان يؤلف كتابه على هذا الأساس.4- لا بد من الاعتراف بأن الطفرة التي أحدثها ابن عاشور في مجال مقاصد الشريعة، متمثلة في العناصر الثلاثة السابقة، وأيضا في كونه أدخل الدراسة المقاصدية في البرنامج الدراسي لجامعة الزيتونة، وفي فكره المقاصدي المثبوت في عامة إنتاجه الفقهي والأصولي والتفسيري والحديثي والفكري، هذه الطفرة لم تنبت من فراغ، ولم تأت بغتة، بل هي مسبوقة ومعززة بالحركة الإصلاحية التجديدية الشاملة التي كانت تعتمل آنذاك لدى علماء مصر وتونس والجزائر والمغرب وغيرهم. وتعززت كذلك بنشر كتاب(المواقفات) الذي طبع في حياته عدة مرات بتونس ومصر، وقام هو نفسه بتدريسه للطلبة الزيتونيين. فابن عاشور مدين لكل هذه العوامل التي جنى ثمرتها. الصحوة المقاصدية المعاصرة.1ـ في سياق العناصر المشار إليها في الفقرات السابقة، وبعد سنوات من صدور كتاب ابن عاشور، نجد الزعيم والعلامة المغربي علال الفاسي(ت1974) يحمل راية المقاصد والفكر المقاصدي على نطاق واسع في عدد من المؤسسات الجامعية المغربية، ويتوج ذلك بتأليف كتابه(مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها)، وهو الكتاب الذي يقول عنه:"وكان أصله محاضرات ألقيتها على كل من طلبة الحقوق بجامعة محمد الخامس بالرباط، وطلبة كلية الحقوق بنفس الجامعة بفاس، وطلبة كلية الشريعة بجامعة القيروان من نفس المدينة "[66]وهذا ـ كما لا يخفى-توسع كبير في تدريس مقاصد الشريعة وتلقين قضاياها ونشر ثقافتها، وإخراج لها من الحيز الضيق الذي كان لا يتجاوز- في أحسن الحالات-خاصة الخاصة.ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل استمر وترسخ وتضاعف أضعافا كثيرة. فبعد سنوات قليلة من وفاة علال الفاسي رحمه الله، نجح بعض رفاقه وتلاميذه في افتتاح أقسام للدراسات الإسلامية في كليات الآداب والعلوم الإنسانية، وهي الكليات التي توجد في جميع الجامعات المغربية، حيث جعلت فيها "مقاصد الشريعة" مادة دراسة مستقلة يدرسها آلاف الطلبة بصفة منتظمة طيلة سنينهم الجامعية. هذه السنة الحسنة ما لبثت أن انتقلت واتسعت، وعمل بها في مستويات ومؤسسات جامعية أخرى بالمغرب وخارج المغرب. وهذا هوالتطور التاريخي الأعظم الذي عرفته مقاصد الشريعة والدراسات المقاصدية منذ كانت. بل إن هذا التطور أصبح يخدم مقاصد الشريعة في سنة واحدة بأضعاف مضاعفة عما كان يحصل على مدى قرون؛ ذلك أن الأمر لم يقف عند تدريس المقاصد لألوف الطلاب في عدد من الجامعات عبر العالم، بل امتد إلى البحث العلمي، الجامعي وغير الجامعي، وامتد إلى حركة التأليف والنشر، وامتد إلى المجالات والندوات المتخصصة. وها نحن اليوم نتدارس مبادرة كريمة، هي الأولى في بابها، لتأسيس "مركز دراسات مقاصد الشريعة".فهذا ما أعنيه بالصحوة المقاصدية المعاصرة. مستقبل البحث في مقاصد الشريعة البحث في مقاصد الشريعة أضحى اليوم ينمو ويتسع بوتيرة لم يسبق لها مثيل، سواء في الجامعات أوخارجها. غير أن ذلك يجري بكثير من العفوية أو العشوائية، مما يؤكد الحاجة الملحة لكثير من التفكير والتخطيط والتوجيه، من أجل ترشيد البحث المقاصدي. بين يدي ذلك أضع فيما يلي بعض الخطوط العريضة التي يمكن اعتمادها في هذا المجال:أولا ـ الدراسة المقاصدية للقرآن والسنة: لقد تحقق قدر معتبر من النشر والدراسة للمؤلفات والإسهامات المقاصدية لعدد من علمائنا، من فقهاء وأصوليين ومتكلمين وغيرهم. ولقد أصبح الآن لزاما التوجه إلى الدراسة المقاصدية المباشرة لنصوص القرآن والسنة، لأن مقاصد الشريعة-في البدء وفي النهاية-إنما هي مقاصد الكتاب والسنة لا أقل ولا أكثر، فإذا كنا نلتمس المقاصد ونستخرجها من كتب الفقه وكتب الأصول وغيرها، فأولى بنا الآن أن نلتمسها ونستخرجها من القرآن الكريم والسنة النبوية. فإنما المقاصد مقاصدهما، وإنما الأصول أصولهما. قال الإمام الشاطبي وهويحكي رحلته مع المقاصد ومع كتاب (الموافقات): « ولما بدا من مكنون السر ما بدا، ووفق الله الكريم لما شاء منه وهدى، لم أزل أقيد من أوابده، وأضم من شوارده تفاصيل وجملا، وأسوق من شواهده في مصادر الحكم وموارده مبينا لا مجملا، معتمدا على الاستقراءات الكلية، غير مقتصر على الأفراد الجزئية، ومبينا أصولها النقلية بأطراف من القضايا العقلية، حسبما أعطته الاستطاعة والمنة في بيان مقاصد الكتاب والسنة"[67]ثم قال رحمه الله في موضع آخر:
"إن الكتاب قد تقرر أنه كلية الشريعة، وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر... وإذا كان كذلك، لزم ضرورة لمن رام الاطلاع على كليات الشريعة وطمع في إدراك مقاصدها، واللحاق بأهلها، أن يتخذه سميره وأنيسه، وأن يجعله جليسه على مر الليالي والأيام... ولا يقدر على ذلك إلا من زاول ما يعينه على ذلك من السنة المبينة للكتاب.[68]" على أن مقاصد القرآن والسنة ليست محصورة في آيات الأحكام وأحاديث الأحكام. بل كل الآيات والأحاديث لها مقاصدها، ويجب أن تدرس وتفهم بمقاصدها. فالقصص القرآني له مقاصده، والأدعية القرآنية والنبوية لها مقاصدها[69]، وضرب الأمثال في القرآن والسنة له مقاصده، كما للآيات والأحاديث التشريعية مقاصدها. وما ذكره ابن بطال وابن القيم من كون القرآن والسنة مليئين بآلاف التعليلات والتنبيهات المقاصدية، يجب استقصاؤه واستخراجه ودراسته بالكامل، وهذا وحده يتطلب عدة أبحاث ومؤلفات. ثانيا: مقاصد العقائد وهذا المجال في تقديري هو أهم المجالات والآفاق التي على البحث المقاصدي ارتيادها وإلحاقها بمجالات الدراسات المقاصدية، وأعني به البحث في (مقاصد العقيدة الإسلامية)، تماما مثلما بحث السابقون ويبحث المعاصرون في(مقاصد الشريعة الإسلامية). وليست شرائع الإسلام أولى بالعناية وبالبحث عن مقاصدها من عقائد الإسلام. فلماذا نجد الحديث ينمو ويتكاثر عن مقاصد الأحكام ولا نجد شيئا عن مقاصد العقائد؟ ! ففي الفقه والتشريع كانت مقاصد الأحكام حاضرة ومؤثرة في الفهم والاستنباط والاجتهاد والتطبيق، مما جعل الحديث عن مقصود الشرع، ومقصود الحكم، وحكمة الشريعة ومقاصد الشريعة، حديثا مألوفا ومعتمدا عند عامة علماء الفقه وعلماء أصول الفقه. أما مجال العقائد(علم التوحيد وعلم الكلام) فقد خلا تقريبا من النظر المقاصدي، وكأن عقائد الإسلام ليس لها مقصد ولا غرض ولا ثمرة ترجى، وأن على المكلف أن يعتقدها ويعقد عليها قلبه ليس إلا. وليت الأمر وقف عند هذا الحد، فإنه قد يهون، ولكن الذي حصل ونتج عن تغييب مقاصد العقائد هواتخاذ مقاصد غير مقاصدها، تم تفنيدها من الخصوم المناوئين، والرد عليها بما يضادها، وأدخلت العقائد الإسلامية- تلك البسيطة البريئة- في متاهات ذهنية خيالية أفقدتها قيمتها وفائدتها، وصرفتها عن مقاصدها وعن بعدها العلمي. أنا أنطلق من أن لكل عقيدة من عقائد الإسلام (الإيمان بالله، صفات الله وأسماؤه الحسنى، النبوات، القضاء والقدر، الملائكة، اليوم الآخر، الجنة، النار، الصراط، الثواب، العذاب...) كل عقيدة من هذه العقائد، وضمنها عقائد جزئية، لها مقصودها الشرعي أو مقاصدها. وهي مقاصد-كمقاصد الأحكام التشريعية-مصرح ببعضها، أو مومأ إلى بعضها، وبعضها يدرك بالبداهة والفطرة، أو يدرك بالنظر والربط والاستنتاج. بل إن مقاصد العقائد تدرك أيضا من خلال مقاصد الشريعة مثلما العكس أيضا. فإن الشرائع والعقائد ملة واحدة ذات مقاصد واحدة. المهم: لكي تستعيد عقائدنا وجهها الحقيقي وتؤدي دورها الحقيقي، وتستعيد موقعها الأساسي في حياتنا وعلومنا وثقافتنا، لابد من البحث في مقاصدها الشرعية، ودراستها والتعامل معها في ضوء مقاصدها تلك. فهذا مجال كبير وبكر من مجالات(علم المقاصد)، يحتاج إلى باحثين أفذاذ ومستكشفين رواد. وقد انشغلت بهذا الموضوع وتهممت به منذ عدة سنوات، حيث عرجت بي بعض المناسبات على نقاشات وقراءات في بعض القضايا العقدية. وكنت فيما قبل قد تعاملت كأي طالب علم مع هذا المجال وقضاياه وتقبلته على ما هوعليه، ثم مضيت إلى شيء من التخصص والتركيز في مجالي الأصول والمقاصد وغيرهما. فلما عدت مؤخرا إلى بعض المراجعات والمناقشات العقدية، هالني أن أجد العقائد بلا مقاصد ! ونما في نفسي هم وقلق شبيه بذلك الذي عبر عنه أبوالوليد بن رشد رحمه الله بقولــه: " فإن النفس مما تخلل هذه الشريعة من الأهواء الفاسدة والاعتقادات المحرفة في غاية الحزن والتألم[70]" وأنا إلى الآن أتعجب وأتساءل: كيف ظهر في المسلمين(علم مقاصد الشريعة) ولم يظهر فيهم(علم مقاصد العقيدة) !؟ ولقد كدت أستسلم لمقولة (الواقع لا يرتفع)، ولكن نظرا لأهمية القضية وخطورتها وشدة إلحاحها علي، بدأت أفكر وأقتنع بأن هذا الواقع لا بد أن يرتفع. فإذا لم أكن أنا متخصصا في مجال العقائد ولا قادرا على التفرغ له، فلأكن فيه داعيا ومناديا. وفي هذا السياق تأتي إثارتي لهذه القضية ودعوتي إلى بحثها ومعالجتها فيما يستقبل من مسيرة البحث المقاصدي. ثالثا: طرق إثبات المقاصد هذا الموضوع كما لا يخفى هو مفتاح الكشف والإثبات لمقاصد الشريعة. وهو أيضا المفتاح الذي به نغلق الباب على أدعياء المقاصد والمتقولين على المقاصد، والمتقولين على الشريعة وأحكامها باسم المقاصد.فحينما يصبح القول في مقاصد الشريعة وتحديدها وتعيينها وترتيبها عملا علميا دقيقا ومضبوطا له أصوله ومسالكه وقواعده، يمكننا أن نتقدم بثبات وثقة في مزيد من الكشف عن مقاصد الأحكام، إتماما- ولربما تصحيحا- لما قام به أسلافنا من فقهاء وغيرهم، على مر العصور.
كما أن هذا سيغلق الباب على الطفيليين ودعاة التسيب باسم المقاصد والاجتهاد، الذين أصبح شعارهم" لا نص مع الاجتهاد" و"حيثما كان رأينا فتلك هي المصلحة" و"حيثما اتجه تأويلنا وغرضنا فتلك هي مقاصد الشريعة". نعم لقد بذلت مجهودات، وكتبت أبحاث وفصول ومقالات في هذا الموضوع، من ذلك بحث الأستاذ فريد شكري، المقدم بهذه الكلية، وبحث الدكتور نعمان جغيم، وهو مطبوع بعنوان(طرق الكشف عن مقاصد الشارع)،ولكنها تظل حتى الآن قاصرة كما وكيفا عن سد هذه الثغرة وإيفائها حقها، بما يتناسب مع أهميتها وخطورتها. رابعا: إعمال المقاصد واعتمادها في قضايا الفكر الإسلامي المعاصر. إن مقاصد الشريعة - العامة منها والجزئية- تمثل ثوابت الإسلام ومراميه وأسسه العقدية والتشريعية ولذلك فهي تمثل عنصر الثبات والوحدة والانسجام لحركة الفكر الإسلامي في مختلف قضاياه وجوانبه. ومن جهة ثانية فإن الفكر الإسلامي المعاصر قد أصبح عرضة- أكثر من أي وقت مضى - لتأثيرات قوية نافذة من الفكر الغربي الحديث، مما يوسع من احتمالات الاختلاف والتباعد، ليس بين رواده ومدارسه فحسب، ولكن التباعد حتى عن بعض ضوابط الإسلام ومقتضياته وعن صبغته وطبيعته. ومقاصد الشريعة بما تتضمنه وتبرزه من كليات وثوابت، ومن شمولية وتناسق في النظر إلى الأمور، وبما تتضمنه من مراتب وأولويات، هي خير مؤسس وموجه وموحد للفكر الإسلامي في مختلف القضايا التي يواجهها ويعالجها اليوم، سواء منها العقدية أو السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو التربوية...، ولا نبالغ إذا قلنا إن"الفكر الإسلامي"لا يكون جديرا بهذه الصفة إلا بقدر ما يتمثل مقاصد الشريعة ويصطبغ بها، ويترجمها إلى إجابات وحلول لقضايا العصر وإشكالاته وتحدياته.وعلى هذا الأساس يمكن تناول أي قضية من القضايا التي تشغل الفكر المعاصر، والفكر الإسلامي خاصة، ودراستها من عدة زوايا يكون من بينها أو في مقدمتها زاوية مقاصد الإسلام ومقاصد شريعته، بحيث تتخذ معيارا وحكما. وبالله تعالى التوفيق والحمد لله رب العالمين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] -شرح ابن بطال9/19، وابن بطال فقيه مالكي أندلسي، (ت449) وشرحه هذا من أعظم شروح صحيح البخاري، وقد اعتمد عليه كثيرا صاحب فتح الباري، وخاصة في الفقه. [2] ـ كتاب القبس في شرح موطإ مالك بن أنس 2/802[3] ـ نفسه ص 91[4] ـ من القسم الأول إلى آخر كتاب النكاح[5] محاسن الشريعة، القسم المحقق، ص: 90[6] -نفسه 91[7] -نفسه 94[8] ـ نفسه 708[9] ـ نفسه 111[10] ـ نفسه 111[11] ـ محاسن الشريعة، ص 504، 505[12] ـ نفسه ص: 122[13] ـ انظر الهوامش في ص 109 و112[14] حققه الأستاذ حسني نصر زيدان، ونشر بمصر(دار الكتاب العربي)[15] الصلاة ومقاصدها، ص12[16] حققه الدكتور خالد زهري، ونشرته كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط[17] حققه الأستاذ حسني نصر زيدان، ونشر بمصر(1970)[18] مطبوع في مجلد واحد من جزأين [19] للمقارنة بين الرجلين، أنظر"تعليل الشريعة بين السنة والشيعة، الحكيم الترمذي وابن بابوي القمي نموذجين"لخالد الزهري[20] ـ الإعلام بمناقب الإسلام.ص125[21] ـ المصدر نفسه، ص150[22] ـ المحصول 2-2/242. وسيأتي قريبا استعمال القاضي عبد الجبار لمصطلح" الاستصلاح "و سبقه بذلك للجويني والغزالي الذين اشتهرا باستعماله.[23] ـ البرهان، 2/923[24] ـ البرهان، 2/923و927[25] ـ البرهان، 2/924و937[26] البرهان، 2/924 و937[27] ـ البرهان، 2/925و94.[28] ـ البرهان، 2/947.[29] ـ البرهان، 2/926.[30] ـ البرهان، 2/926.[31] ـ البرهان، 2/958.[32] ـ البرهان، 2/958.[33] ـ البرهان[34] ـ الدكتور فريد الأنصاري:المصطلح الأصولي عند الشاطبي، 1/38، (أطروحة دكتوراه بخزانة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمحمدية-المغرب)[35] ـ البرهان, 2/602.[36] ـ البرهان, 2/607[37] ـ البرهان, 2/606 و الغياثي: 295.[38] ـ الغياثي: 295 – 296[39] ـ نفسه، 296[40] ـ البرهان، 2/624[41] ـ الغياثي:147[42] ـ الغياثي:49[43] ـ النظر على سبيل المثال:البرهان 2/724-726[44] ـ النظر على سبيل المثال:الغياثي:253والبرهان:2/875[45] ـ البرهان2/604[46] ـ الغياثي:158[47] ـ شفاء الغليل159[48] ـ سورة هود:88[49] ـ سورة الأعراف 142[50] ـ البرهان2/800[51] ـ البرهان2/610[52] ـ الغياثي269-270[53] ـ الغياثي ص: 140[54] ـ فقه إمام الحرمين262[55] ـ المغني 13/20[56] ـ أنظر (الفكر المقاصدي عند الإمام الغزالي، الفصل الأخير) رسالة جامعية بكلية الآداب و العلوم الإنسانية بالرباط. [57] ـ المستصفى1/288[58] ـ الإحكام 4/380[59] ـ وانظر أطروحة الدكتور عمر بن صالح بن عمر(مقاصد الشريعة عند الإمام عز الدين بن عبد السلام)[60] ـ أعني بذلك كتابي(نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي)[61] ـ يقصد كتاب(الموافقات) الذي كان الشاطبي قد اختار له في البداية اسم(عنوان التعريف بأسرار التكليف)بهذه الصيغة وليس كما ورد عند الشيخ بن عاشور، دون أن يصححه أو ينبه على خطئه أحد من الناشرين ولا من المحققين.[62] ـ مقاصد الشريعة الإسلامية، بتحقيق الميساوي، ص128-129[63] ـ راجع تفصيل ذلك في (نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي)، وخاصة الباب الرابع، الأخير.[64] ـ مقاصد الشريعة الإسلامية، مقدمة المحقق ص103[65] ـ مقاصد الشريعة، بتحقيق الميساوي، ص127[66] ـ مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، (تقديم الكتاب) [67] ـ الموافقات 1/ 9 طبعة دار ابن عفان1417/1997[68] ـ الموافقات 4/144[69] ـ قد يرى البعض أن الأدعية –على سبيل المثال- مقصودها واضح معروف،وهو ابتغاء الاستجابة وتحقيق مضمونها من الله تعالى.وهذا مسلم لاشك أنه المقصود الأول والمباشر للدعاء.لكن الدعاء يتضمن قضايا ومقاصد عقدية وتعليمية وتربوية وتشريعية. فهذا ما أدعو إلى دراسته وبيانه واستثماره.ومنذ مدة وأنا أقترح على بعض الطلبة الباحثين موضوع (فقه الدعاء ومقاصده) ولا أعلم أن أحدا قد بحثه.[70] ـفصل المقال، ص57/58.